أقر الرئيسان المصرى عبد الفتاح السيسى، والتونسى قيس سعيد، أن عام 2021 – 2022 سيكون العام الثقافى المصرى والتونسى، لذا فإن ذلك يقتضى منا أن نلقى الضوء على أهم الشخصيات الثقافية التى كان الشعبان على علاقة بإبداعها، وعلى رأس هؤلاء يأتى "أبو القاسم الشابى":
ولد أبو القاسم الشابى صاحب القصيدة المشهورة التى يتغنى بها الجميع "إذا الشعب يوما أراد الحياة"، وقصيدة "إلى طغاة العالم"، والنشيد الوطنى لتونس، فى الرابع والعشرين من فبراير عام 1909م بمدينة توزر فى تونس، حيث إن والده الشيخ محمد الشابى قضى حياته الوظيفية فى القضاء بمختلف المدن التونسية، حيث تمتع الشابى بجمالها الطبيعى الخلاب، ومرض والده مرضه الأخير عام 1929 ورغب حينها فى العودة إلى توزر، ولم يعش الشيخ محمد الشابى طويلاً بعد رجوعه إلى توزر فقد توفى سبتمبر 1929.
كان الشيخ محمد الشابى رجلاً صالحاً تقياً، ومن المعروف أن للشابى ثلاثة إخوة هم محمد الأمين وعبد الله وعبد الحميد أما محمد الأمين فقد ولد فى عام 1917 فى قابس ثم مات عنه أبوه وهو فى الحادية عشر من عمره ولكنه أتم تعليمه فى المدرسة الصادقية أقدم المدارس فى القطر التونسى لتعليم العلوم العصرية واللغات الأجنبية وقد أصبح الأمين مدير فرع خزنة دار المدرسة الصادقية نفسها وكان الأمين الشابى أول وزير للتعليم فى الوزارة الدستورية الأولى فى عهد الاستقلال فتولى المنصب من عام 1956 إلى عام 1958م.
يبدو أن الشابى كان يعلم إثر تخرجه فى جامع الزيتونة أعرق الجامعات العربية أو قبلها بقليل أن قلبه مريض ولكن أعراض الداء لم تظهر عليه واضحة إلا فى عام 1929 وكان والده يريده أن يتزوج فلم يجد أبو القاسم الشابى للتوفيق بين رغبة والده وبين مقتضيات حالته الصحية بداً من أن يستشير طبيباً فى ذلك وذهب الشابى برفقة صديقة زين العابدين السنوسى لاستشارة الدكتور محمود الماطرى، ولم يكن قد مضى على ممارسته الطب يومذاك سوى عامين وبسط الدكتور الماطرى للشابى حالة مرضه وحقيقة أمر ذلك المرض غير أن الدكتور الماطرى حذر الشابى على أية حال من عواقب الإجهاد الفكرى والبدنى وبناء على رأى الدكتور الماطرى وامتثالاً لرغبة والده عزم الشابى على الزواج وعقد قرانه.
يبدو أن الشابى كان مصاباً بالقلب منذ نشأته وأنه كان يشكو انتفاخاً وتفتحاً فى قلبه ولكن حالته ازدادت سوءاً فيما بعد بعوامل متعددة منها التطور الطبيعى للمرض بعامل الزمن، والشابى كان فى الأصل ضعيف البنية ومنها أحوال الحياة التى تقلّب فيها طفلاً ومنها الأحوال السيئة التى كانت تحيط بالطلاب عامة فى مدارس السكنى التابعة للزيتونة، ومنها الصدمة التى تلقاها بموت محبوبته الصغيرة ومنها فوق ذلك إهماله لنصيحة الأطباء فى الاعتدال فى حياته البدنية والفكرية ومنها أيضاً زواجه فيما بعد.
لم يأتمر الشابى بنصيحة الأطباء إلا بترك الجرى والقفز وتسلق الجبال والسياحة، ولعل الألم النفسى الذى كان يدخل عليه من الإضراب عن ذلك كان أشد عليه مما لو مارس بعض أنواع الرياضة باعتدال.
يقول بإحدى يومياته الخميس 16-1-1930 وقد مر ببعض الضواحى: "ها هنا صبية يلعبون بين الحقول وهناك طائفة من الشباب الزيتونى والمدرسى يرتاضون فى الهواء الطلق والسهل الجميل ومن لى بأن أكون مثلهم؟ ولكن أنّى لى ذلك والطبيب يحذر على ذلك لأن بقلبى ضعفاً ! آه يا قلبى ! أنت مبعث آلامى ومستودع أحزانى وأنت ظلمة الأسى التى تطغى على حياتى المعنوية والخارجية".
وصف الدكتور محمد فريد غازى مرض الشابى فقال: " إن صدقنا أطباؤه وخاصة الحكيم الماطرى قلنا إن الشابى كان يألم من ضيق الأذنية القلبية أى أن دوران دمه الرئوى لم يكن كافياً وضيق الأذنية القلبية هو ضيق أو تعب يصيب مدخل الأذنية فيجعل سيلان الدم من الشرايين من الأذنية اليسرى نحو البطينة اليسرى سيلاناً صعباً أو أمراً معترضاً (سبيله) وضيق القلب هذا كثيرا ما يكون وراثياً وكثيراً ما ينشأ عن برد ويصيب الأعصاب والمفاصل، وهو يظهر فى الأغلب عند الأطفال والشباب ما بين العاشرة والثلاثين وخاصة عند الأحداث على وشك البلوغ ".
وتابع الشابى علاجه عند الكثير من الأطباء منهم الطبيب التونسى الدكتور محمود الماطرى ومنهم الطبيب الفرنسى الدكتور كالو والظاهر من حياة الشابى أن الأطباء كانوا يصفون له الإقامة فى الأماكن المعتدلة المناخ.
قضى الشابى صيف عام 1932 فى عين دراهم مستشفياً وكان يصحبه أخوه محمد الأمين ويظهر أنه زار فى ذلك الحين بلدة طبرقة برغم ما كان يعانيه من الألم، ثم أنه عاد بعد ذلك إلى توزر وفى العام التالى اصطاف فى المشروحة إحدى ضواحى قسنطينة من أرض القطر الجزائرى وهى منطقة مرتفعة عن سطح البحر تشرف على مساحات مترامية وفيها من المناظر الخلابة ومن البساتين ما يجعلها متعة الحياة الدنيا، وقد شهد الشابى بنفسه بذلك ومع مجىء الخريف عاد الشابى إلى تونس الحاضرة ليأخذ طريقة منها إلى توزر لقضاء الشتاء فيها. غير أن هذا التنقل بين المصايف والمشاتى لم يجدى الشابى نفعاً، فقد ساءت حاله فى آخر عام 1933 واشتدت عليه الآلام فاضطر إلى ملازمة الفراش مدة، حتى إذا مر الشتاء ببرده وجاء الربيع ذهب الشابى إلى الحمّة (حامة توزر) طالباً الراحة والشفاء من مرضه المجهول وحجز الأطباء الاشتغال بالكتابة والمطالعة.
وغادر الشابى توزر إلى العاصمة فى 26-8-1934 وبعد أن مكث بضعة أيام فى أحد فنادقها وزار حمام الأنف، أحد أماكن الاستجمام شرق مدينة تونس نصح له الأطباء بأن يذهب إلى أريانة وكان ذلك فى أيلول واريانة ضاحية تقع على نحو خمس كيلومترات إلى الشمال الشرقى من مدينة تونس وهى موصوفة بجفاف الهواء، ولكن حال الشابى ظلت تسوء وظل مرضه عند سواد الناس مجهولاً أو كالمجهول وكان الناس لا يزالون يتساءلون عن مرضه هذا: أداء السل هو أم مرض القلب؟.
توفى أبو القاسم الشابى فى المستشفى فى التاسع من أكتوبر من عام 1934 فجراً، نقل جثمان الشابى فى أصيل اليوم الذى توفى فيه إلى توزر ودفن فيها، وقد نال الشابى بعد موته عناية كبيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة