تمر اليوم ذكرى ميلاد المؤرخ المصرى الشهير عبد الرحمن الرافعى، الذى ولد فى سنة 1889، والذى أبدع العديد من الكتب المهمة، وفى سنة 1963 كتب عبد الرحمن الرافعى كتابا بعنوان تاريخ الحركة القومية فى مصر القديمة: من فجر التاريخ إلى الفتح العربى.
يقول عبد الرحمن الرافعى فى مقدمة الكتاب:
عندما كنت أؤرخ للحركة القومية فى العصر الحديث، رأيت أن عظمة مصر القديمة — مصر الفرعونية — تستهوى الباحثَ لاستقصاء تاريخها، وخاصةً حين طالعت ما نشره علماء الحملة الفرنسية منذ أوائل القرن التاسع عشر عن أمجادها ومفاخرها، وما رسموه فى مجموعاتهم ومُصوَّراتهم من آثارها الخالدة، ولقد كان هؤلاء العلماء أول من كشفوا عن هذه الآثار كشفًا علميًّا، وكنت وأنا أطالع هذه الكشوف أتساءل: ألم تكن فى مصر القديمة حركة قومية يصحُّ أن تكون أساسًا لتاريخِها على غرار الحركة القومية فى تاريخها الحديث؟
لقد كنت موقِنًا بأن ما بلغَتْه مصر القديمة من التقدُّم والحضارة والعظمة، لا بدَّ أن يكون له أساسٌ قومى هو عماد الحركة القومية، وهذا ما يقتضى البحث عنه وتدوينه، ولكنى أرجأت هذا البحث حتى أستوفى تاريخ الحركة القومية فى العصر الحديث، فلما أتمَمْتُه بعون الله عاودَتْنى فكرة التأريخ للحركة القومية فى مصر الفرعونية، فأخذت أعيدُ النظر فيما كنت أقرؤه عنها، وأتعمق فى دراسة المسائل التى تتصل بها، وأرجع إلى المصادر التى طالعَتْنى بها قراءاتى السابقة وأزيد عليها مُشاهَداتى اللاحقة، وخلُصَتْ لى من ذلك كله صورةٌ واضحة المعالم لهذا التاريخ أود أن أعرضَها فى هذا الكتاب، وإذا شاءت عناية الله فسأُتبعها بصور أخرى للحركات القومية التى تعاقبتْ على البلاد حتى قُبيل العصرِ الحديث.
تاريخ الحركة القومية
والحركة القومية كما قصَدْتها وعنَيْتها، هى الجهود التى بذَلها الشعب المصرى بمختلف طبقاته فى سبيل تكوين مصر الحرة المستقلة، والذَّوْد عن كيانها، والدفاع عن استقلالها، والثورة على كل من يعتدى على هذا الاستقلال ومقاومته بكل ما أوتيتْ من حَولٍ وقوة.
والتاريخ القومى للأمة لا يستكمل مدَاه إلا إذا كان مَدروسًا ومعروضًا على ضوءِ الحركة القومية، فهى أساس وجودها، ومبعثُ نهوضِها وتطورها.
وإذ كان هذا هو جوهر الحركة القومية، فأجدَرُ بمصر القديمة أن يكون لها النصيب الأوفى والأوَّل فى هذا التاريخ.
فلقد كانت أسبقَ الأمم إلى تحقيق استقلالها، وتأسيس حكومة نظامية ترعى هذا الاستقلال وتضطلع بمقوماتِ الحضارة منذ عصور متناهية فى القِدَم، ولا غروَ فتاريخها هو تاريخ الإنسانية.
ولقد حققتْ وحدتَها القومية سنة 3200 قبل الميلاد، حين استطاع الملِك «مينا» أن يضمَّ الوجهين البحرى والقبلي، ويجعل منهما دولة موحدة كانت أعرقَ الوحدات القومية ظُهورًا فى التاريخ.
ومن يومئذٍ تتابعت الأُسرات الملكية فى ظل الوحدة وسارت بالبلاد قُدُمًا إلى الأمام، ولم يسكت الشعب عن ضَيْمٍ أصابه، وظل طُوال القرون يُناضل عن استقلاله ويرد عنه كيد المعتدين والغاصبين، وهذا أول ما عُنيت بإبرازه فى صحائف هذا الكتاب.
يُحصى المؤرخون الأسرات الملكية المصرية بثلاثين أُسرة، يقسمونها إلى ثلاثةِ عهود هي: الدولة القديمة، تليها الدولة الوسطى، ثم الدولة الحديثة، وقد سِرتُ على هذه التسمية فى إبراز الحوادث الهامة التى لها علاقة بالحركة القومية.
ففى أواخر عهد الأسرة السادسة من الدولة القديمة، قامت ثورة اجتماعية شعبية ظهرتْ لها نتائجها وآثارها على تعاقُب السنين.
وبسقوط الأسرة العاشرة بدأت الدولة الوسطى من الأسرة الحادية عشرة إلى السابعة عشرة، ثم تَلَتْها الدولة الحديثة من الأسرة الثامنة عشرة إلى الأسرة الثلاثين.
وفى عهد الأسرة الثالثة عشرة رُزئت البلاد بالغزو الهكسوسى الذى عصَفَ باستقلالها، واستمرَّ يعبث به ردحًا من الزمَن، ثم لم تلبث مصر أن نهضتْ من كَبوتها وخاضتْ معركة الحرية، وطردَت الهكسوس سنة 1570 قبل الميلاد على يد «أحمس» الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة.
وكان تحرير البلاد من الهكسوس قد غرَسَ فى النفوس روح القومية، وحفَزَها إلى غزو معاقلهم فى فلسطين وسورية ولبنان، فشنَّتْ مصر عليهم وعلى حُلفائهم فى عهد الدولة الحديثة حروبًا دفاعية بقيادة «تحوتمس الثالث» بطل معركة «مجدو» سنة 1479 قبل الميلاد، واستمرَّتْ هذه الحروب عدة سنين حتى اطمأنَّت مصرُ على كيانها، ومن ثم اتسعت رقعتُها فامتدَّتْ حدودها من أعالى الفرات شمالًا إلى الشَّلال الرابع على النيل جنوبًا.
ثم ظهرت أطماع الدول المعادية لها وأخذوا يَنتقصونها من أطرافها، وينالون من وحدتها، حين آنسوا منها ضعفًا وانقسامًا فى جبهتها الداخلية، فثبتت لهذه المحاولات، وامتاز عهد رمسيس الثانى بحروبه الدفاعية فى سبيل حفظ كيان الدولة المصرية، وسار على نهجه خلفاؤه.
وتجددت الأطماع، واستطاع الآشوريون أن يُغِيروا على مصر ويحتلوها.
ثم لم يلبث الشعب أن أَجْلاهم عنها فى عهد «أبسماتيك الأول»، وعادتْ لها حريتها واستقلالها.
وظلت على ذلك إلى أن نُكبت سنة 525ق.م. بالغزو الفارسي، ولم يكن هذا الغزو الذى قاده قمبيز بمُضيِّعٍ كيان مصر أو مضعضع لمكانتها التى نالَتْها على تعاقب القرون. فإذا قارنَّا هذا الغزو بما أصاب الإمبراطورية الرومانية حين استَهدفت فى القرن الخامس بعد الميلاد لغَزَوات أقوام من الهمَجِ انقضُّوا عليها فدمروها ودكُّوا معالمها ومزقوا أوصالها، نجد أن مصر على العكس قد صمدتْ للغزو الفارسى واحتفظت بكيانها وطابعها القديم، ولم تستسلم للمحتلِّ المغير، بل ثارتْ عليه المرة بعد المرة، إلى أن جاء الإسكندر المقدونى يحارب الفُرس ويصادق المصريين، فهزم دولة الفرس وقوَّضَ أركانها واستولَى على عاصمتها.
وهناك احتلالان قرأت فى بعض كُتُب المؤرخين أن مصر القديمة استَهدفَتْ لهما، فقالوا عنها: إنها خضعت يومًا للحكم الليبي، ويومًا آخر للحكم الإثيوبي، ولم يكن قولهم هذا قرينَ الحق والصواب، فقد زعموا أن الأسرة الثانية والعشرين التى أسَّسها «شيشنق» فى القرن العاشر قبل الميلاد هى أسرة ليبية أجنبية حكَمت البلاد زمنًا طويلًا، والصَّحيح أن «شيشنق» هذا وإن كان من أصل ليبيٍّ، ولكنه تمصَّر ومن قبله تمصَّرَ أسلافه منذ عدة قرون، ومضَتْ عليهم بعد أن تمصروا أجيال وأجيال فصاروا من صميم المصريين، وقد كان حكم «شيشنق» مصريًّا خالصًا لمصر أعاد إليها بعض ما كان لها من عزٍّ وسؤدد، واحتل فلسطين واستولى على أورشليم (بيت المقدس) واستخلصها من اليهود، واستَردَّت البلاد بفضل حملاته الموفقة نفوذَها فى آسيا، وورد اسمه فى التوراة لمناسبة حروبه مع الإسرائيليين.
وقال بعض المؤرِّخين أن «يبعنخى» أسَّس فى القرن الثامن قبل الميلاد الأسرة الخامسة والعشرين، ووصفوه ووصفوا أسرته بالإثيوبيين وزعموا أن إثيوبيا حكمتْ مصر فى عهدهم.
والحق أن «بيعنخى» هو من النوبة لا من إثيوبيا، وأصل أسرته من كهنة طيبة الذين هاجروا إلى الجنوب، والنوبة جزء لا يتجزأ من مصر وفيها الآثار الخالدة للفراعنة التى يتحدَّثُ عنها العالم المتحضر كل حين، فهم إذن من صميم المصريين، فلا هم إثيوبيون، ولا النوبة من إثيوبيا، وأسرتهم مصرية لا شك فى مصريتها، والقول بأن إثيوبيا حكمتْ مصر يومًا يتعارض مع الحقائق التاريخية والجغرافية، وإطلاق اسم إثيوبيا على النوبة هو خطأٌ انساق إليه بعض الرحَّالة الإغريق.
ولئن كان الحديث عن مصر القديمة أو مصر الفرعونية ينتهى على أرجَحِ الآراء بالغزو الفارسي؛ فتاريخ مصر الخالدة يقتضى أن أستطرد إلى ذكر الثورات المصرية التى شبَّتْ فى وجه الفرس، ثم استمرار هذه الثورات فى عهد البطالمة، ثم فى عهد الرومان، إلى أن حرَّرها الفتح العربى من الاحتلال الرومانى سنة 641م/18ﻫ وبه ينتهى هذا الكتاب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة