كان للمؤرخ الكبير عبدالرحمن الرافعى، صديق ارتبط به فى دراسته، وكان طيب الأخلاق، لكنه يرى خدمة بلاده بغير الطريقة التى ينشدها الرافعى، ويصفه فى مذكراته الصادرة عام 1951 قائلا: «كان قليل الثقة فى المجتمع وفى المواطنين، ونظريته أن على الإنسان أن يكون قويما فى ذاته وملكه فحسب، أما أن ينشد الحياة المثالية فإنه بذلك يعرض نفسه للأذى بغير نتيجة».
يتذكر الرافعى: «كانت تدور بيننا مناقشات، وكان يحذرنى دائما مغبة الحياة التى كنت أنشدها، وكنت أخالفه فى الرأى، وأقول له إن أمتنا لم تلق من بنيها الخدمات الصادقة الصحيحة، ولو هى وجدت منهم هذه الخدمات، لكانت حالها خيرا مما هى عليه، وإذا لم تجد من الطبقة المتعلمة المثقفة مثل هذه الخدمات فمن مَن تنتظرها؟! أما هو فكان يقول لى: وهل يضحى الإنسان بنفسه فى وسط لا يقدر التضحية، بل يخذل صاحبها؟! وأين الوسط الذى يقدر الإخلاص والمثل العليا؟!»، يضيف «الرافعى»، أن صديقه كثيرا ما كان يقول له: «إنك تعيش فى جو من الأوهام، وستصدمك الحقائق العملية فى الحياة، وسترى أن المجتمع لا يقدر المثاليين، بل يقدر النفعيين والوصوليين بأكثر مما تتوهم أنه يقدر المثاليين، وينصر أولئك بمقدار ما يخذل هؤلاء»، يتساءل «الرافعى»: «لست أدرى على وجه التحقيق من كان منا على حق، ومن كان منا مخطئا، على الأقل فى حق نفسه؟».
سؤال «الرافعى» هو السؤال الدائم بين صنفين من البشر فى تاريخنا المصرى الحديث، صنف يعيش لنفسه، وصنف يعمل بمقولة الزعيم الوطنى مصطفى كامل: «ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط»، وكان «الرافعى» المولود بالقاهرة يوم 8 فبراير 1889 من الصنف الثانى، لكنه يعترف فى مذكراته بأنه لم يكن يعى شيئا من الشؤون العامة حتى التحق بمدرسة «الحقوق الخديوية» سنة 1904، وبدأ فى قراءة جريدة اللواء لصاحبها الزعيم مصطفى كامل، ثم التقاه لأول مرة بمقر الجريدة فى فبراير 1906، وصار له بمثابة الأب الروحى فى المبادئ، توفى مصطفى كامل شابا يافعا فى فبراير 1908 فتأثر «الرافعى»، وقطع على نفسه عهدا بأن يبقى «وفيا لمبادئه»، وفقا لفتحى رضوان فى كتابه «مشهورون منسيون»، مضيفا: «لما توفى مصطفى كامل، وجد عبدالرحمن الرافعى فى خلفه محمد فريد أستاذا يستطيع أن يحبه ويألفه فى الوقت نفسه، فقد كان مصطفى كامل ناريا تتقد شخصيته بلهيب زعامة واسعة الآفاق، بعيدة الصوت، ما قد يجعله أبعد عن متناول الأيدى، فى حين كان محمد فريد، زعيم الدراسة والبحث والتدبير والتأصيل، كانت حياة مصطفى كامل كالسور القصار فى القرآن، آيات قصيرة سريعة موسيقية، وكانت حياة محمد فريد كالسور الطوال، تفصل وتشرح وترسى القواعد، وتؤصل الأصول، وكان عبدالرحمن الرافعى أقرب إلى هذا المزاج، فاقترب من محمد فريد كثيرا».
جمع «الرافعى» بين العطاء السياسى بطابعه النضالى، وبين العطاء الفكرى وكان التأريخ مجاله، وتبدو هذه المزاوجة ميزة للعديد ممن تربوا فى مدرسة الحزب الوطنى القديم، الذى أسسه مصطفى كامل، فعلى الصعيد النضالى يذكر «رضوان»، أن الرافعى كان أحد أركان مدرسة العمل السرى التى أسسها محمد فريد ضد الاحتلال البريطانى، وفى أثناء ثورة 1919 كان محاميا فى المنصورة، ولعب دورا مهما فى تأجيجيها هناك بتوزيع المنشورات، والمشاركة فى حلقات وخلايا الاغتيال السياسى للمحتلين، وفى انتخابات 1923 فاز بمقعد النواب فى دائرة المنصورة، ضد مرشح حزب الوفد، وأحد كبار أعيان محافظة الدقهلية، ومنذ عام 1939 حتى 1951 أصبح عضوا فى مجلس الشيوخ، ثم وزيرا للتموين ثلاثة أشهر، هى مدة وزارة حسين سرى، وبدأت فى 25 يوليو 1949، وأصبح نقيبا للمحامين بالتعيين عام 1954.
أما فى المجال الفكرى، فكان إنتاجه غزيرا وموسوعيا ووثائقيا، بدأه بثلاثة كتب، يذكرها رضوان وهى «حقوق الشعب» عام 1912، و«نقابات التعاون الزراعية» عام 1914، و«الجمعيات الوطنية» 1922، ثم قدم عمله الخالد، سلسلة «تاريخ مصر القومى» فى 16 جزءا، وأرخ لحقب مصر منذ الحملة الفرنسية، وكان هذا موضوع الجزء الأول الذى صدر فى نهايات سنة 1928، واختتمها بجزئين عن مقدمات ثورة 23 يوليو 1952 وعن الثورة ذاتها.
يؤكد «رضوان»، أن سلسلة «تاريخ مصر القومى»، واسم عبدالرحمن الرافعى، أصبحا قرينين، فقد طغى هذا العمل الوطنى الأدبى الكبير على كل ما عداه من نشاطه وإنتاجه حتى وفاته يوم 3 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1966، يضيف: «ما من شاب يقرأ هذه السلسلة حتى يحس أن صورة بلاده الوطنية فى مائة وخمسين عاما اكتملت أمامه».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة