بينما أتابع في مدينة الدار البيضاء إنطلاق مهرجانها السينمائي الجديد الخاص بالسينما المستقلة، بإدارة الناقد السينمائي المغربي "حمادي جيروم"، يُعقد بصورة رقمية (27:31 يناير)، يراودني الشعور بأنه لا شيء يأت من الفراغ ولا يذهب إليه، أو حسب تعبير الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل: "ليس هناك أقوى من فكرة آن آوانها"، إذ أنه من الواضح أن الآوان كان قد آن لمرحلة ونقلة جديدة في السينما.
المهرجان الجديد في الدار البيضاء والذي يحتفي بالسينما المستقلة ويدعم حرية الفعل السينمائي واستقلاله من سلطة المال، يشبه إلى حد كبير التطورات المعاصرة التي نعيشها في الحياة الجديدة، بحصار من فيروس كورونا، المهرجان يصوغ نفسه في لحظة التشكل والتغيير، محاولاً التهيوء للفعل السينمائي والانخراط فيه بالرغم من التغييرات الحتمية التي تتعلق بالفيروس المستجد، مؤكداً أن السينما لن تموت، بل مستمرة. صحيح أن اجتياح التغيير قوياً، لكن في المقابل يوجد تشبثاً بالتواجد، فثمة رغبة أقوى في التواصل مع الحياة والانخراط في حكاياتها وصورها، والعالم الرقمي سيكون حضوره الجارف فرصة تتيح للجمهور الخيارات المتنوعة للتلقي والتواصل مع مقومات زمنه الجديد.
من هنا انطلق المهرجان الذي يختتم فعالياته غداً ليكون جزء من التوسع الرقمي وطفرة المشاهدة الاليكترونية، وسيلة وأسلوباً، هذا التوسع الذي ساهمت فيه سياسات وممارسات محلية وكونية هي بنت الزمن واللحظة، ولم تكن مجرد صدفة عمياء أو ضربة حظ، أو مجرد قرارات وإنجازات مبعثرة تبدو بعيدة عن بعضها، مثل التطور التراكمي في صناعة السينما، كالتحسن المذهل الذي طرأ على معدات الصوت والتصوير والمونتاج وماكينات العرض، وتغير ثقافة التلقي التي خرجت بمشاهد السينما الجديد من محراب دار العرض الواحدة المهيبة إلى زحام "المول" أولاً، ثم المكوث في المنازل أمام منصات رقمية للأفلام ثانياً.
صار هناك حاضر لا يشبه الأمس، راهن يشكله الآن وباء عاصف، "كورونا" يطغى على الحياة ويعيد ترتيبها وفق جموحه في الانتشار، وقدرة البشر على المواجهة والاستمرار، من هذه النقطة أُغلقت صالات كثيرة وتعطلت مشاريع التصوير، بينما استحدثت أساليباً جديدة للمشاهدة عبر منصات ومواقع متخصصة مختلفة، وتأجلت مهرجانات سينمائية أو عُقدت في الفضاء الاليكتروني مثل مهرجاننا هذا.
النقطة البارزة الأخرى في مهرجان الدار البيضاء هو اختياره للسينما المستقلة عنواناً ومشروعاً، وهي في تقديري مبادرة ضرورية لتسليط الضوء على هذا النسق الإبداعي الذي يتطو تدريجياً، ويحاول أن يجد هوية ومشروعية له، فالسينما المستقلة تعتبر خطاً من خطوط الاستمرار في الصناعة، فإلى جانب تمردها على هيمنة السوق والشركات الاحتكارية ونظام الانتاج التقليدي، فإنها، قدّمت الكثير من الاقتراحات البصرية الفنية والمضمونية، الجديدة والجريئة.
بهذا المعنى فإن فكرة تنظيم هذه التظاهرة، لابد أن تكون موجودة لتأصيل مفهوم السينما المستقلّة، والتعريف بالسينمائيين، هواة ومحترفين، ممن يعملون على تحقيق أفلام مستقلّة، وإتاحة الفرصة لعرض هذه الأفلام ثم التوغل في هذا العالم الابداعي الذي يمثله نحو 12 فيلمًا طويلاً و 18 فيلماً قصيراً ، من حوالي ثلاثين بلدا، تم إخراجها بين عامي 2019 و 2020، من بينهم فيلمان من مصر، هما الروائي الطويل " قابل للكسر" إخراج أحمد رشوان، والروائي القصير (نفس الدرجة) إخراج مينا الدفشي.
بالإضافة إلى هذا نظمت الدورة الأولى ندوة دولية حول ماهية السينما المستقلة ودورها فى إنعاش سينما الشباب، إضافة الى ورشات تكوينية للشباب وماستر السينما حول الإخراج السينمائي ودور المؤلف المستقل، كما تضمن برنامج المهرجان منصة حوارية تفاعلية (Agora) بين المخرجين الشباب وبين السينمائيين المتميزين والمفكرين والتشكيليين والموسيقيين والروائيين، كمحاولة للاستفادة المتبادلة من تجربة كل الأجيال.
في النهاية هنا مهرجان سينمائي جديد يخطو خطوته الأولى في العالم الافتراضي بأهداف تطمح إلى المساهمة العملية والتطبيقية، وهذا في حد ذاته مكسب، نتمناه أن يكون أكثر فعالية في دوراته المقبلة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة