في مثل هذه الأيام وُلد يوسف شاهين، ثم عاش حياة هادرة؛ تعودنا في أفلامه أن نحصي دقائقها حماسة وهِمة، نرصد تفاصيل هذا الرجل الجامح الذي استولد أعماله من الـ "أنا" التي تخصه، كان يفر بها إلى سواه، فتمتد جسور التأويلات المتناقضة، لا تخفف الوجع ولا تكشف خارطة الغموض التي لا تدل إلا على السراب وأن كل شيء فينا عاطفي.
ظل يوسف شاهين حتى لحظة رحيله لوحة سريالية، لكنها لا تفتقد المنطق، من شواطيء الاسكندرية المفتوحة على "الأخر" إلى شواطيء أمريكا المطلة على الغموض والتناقضات ومفردات الإبهار، من بابا أمين إلى هي فوضى، من المماحكات السياسية مع الشيوعيين وأنصار ثورة يوليو وأهل اليسار، إلى نغمات الليبرالية الحادة التي أوقعته في شبهات "التطبيع" مع الآخر سواء كان العدو السابق "فرنسا" أو العدو الحالي "اسرائيل". من الجنون الفني والتجاوز والجرأة على كسر المألوف، وعدم الخضوع للقواعد السائدة إلى الرغبة الملحة في تأسيس تقاليد منضبطة وآليات عمل، وملامح مدرسة سينمائية وإنتاجية خاصة، من حرية الفرد إلى حرية المجتمع التي تصل إلى حد السباحة ضد تيار السلطة كما فعلها في مظاهرات (القانون 103) الخاص بالنقابات الفنية، وحرب الخليج الثانية، والتضامن مع سكان جزيرة الدهب. من الارستقراطية واستخدام الفرنسية في الحوار إلى السوقية والإفراط في استخدام العامية، من "جو" إلى "يوسف"، ومن أحلام الفتى الباحث عن نفسه في غلالات الضوء إلى دأب العجوز الرافض للموت على فراش وثير، من صورة الوطني المدافع عن فقراء بلاده إلى صورة العميل والخائن التي لطالما كانت الأقلام تلوك سيرته بسببها، تمتد اللوحة العجيبة التي تحتشد بالألوان والرموز والخطوط والمعاني، ذلك اللون الأحمر ليس دماً، لكنه يعبر عن احتقان الكلمات على شفاه ظلت حتى النهاية تبحث عن مزيد من الحرية، وتلك النقطة السوداء ليست تعبيراً عن سقوط فني، إنها بؤبؤ العين الذي يساهم في رؤية الضوء، و"الحسنة" التي تعطي للوجه تميزه وسط الوجوه المتشابهة، وذلك الخط المتعرج ليس اهتزازاً في الشخصية، لكنه موج النيل مجسداً على شعره غير "المسبسب"، وتلك التداخلات اللونية العجيبة ليست تعبيراً عن الفوضى والعشوائية بقدر ماهي تعبير عن عبقرية الامتزاج والتعايش بين المتنافرات في حياة مصر التي امتصت كل الغرباء، وأفرزتهم مجدداً في طبعة مصرية خالصة، وتلك التناقضات بين الاتساع والاختناق تؤكد على الحكمة العميقة في حياة البشر التي تختفي بالتنوع والتغير وأن دوام الحال من المحال. يوسف شاهين الذي لا يمكن رؤيته من خلال عمل فني واحد أو تصويره في لقطة فوتوغرافية ثابتة أو وضعه في إطار ضيق أو محاكمته على نقطة سوداء قد تكون أجمل ما فيه، يوسف شاهين الأكبر من فيلم، والأكثر حيوية من صورة، والأوسع من أي إطار هو الأستاذ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة