محمود سباق يكتب:فرضيات وعلاقات فى الفنّ والتَّلقى بـ لوحة (الفردوس الراقص)

الأحد، 14 يونيو 2020 11:33 ص
محمود سباق يكتب:فرضيات وعلاقات فى الفنّ والتَّلقى بـ لوحة (الفردوس الراقص) الفنان سعد على ولوحته

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا يمكن لإنسان مهما كانت ثقافته أن يدرك شيئًا أو حدثًا لم يجربه ولم يعشه، ولا يعنى هذا أننى أقلل من شأن الثقافة والمعرفة وفائدتهما والمتعة المترتبة عليهما، لكننى بكل بساطة أفرد ظلالى على العالم من بداية وعيى به، إننى أجرِّبُهُ كل صباح ومساء وأمنحه الفرصة كاملة ليجربني.
لا انتظر وحيًّا ولا أترجَّى حالةَ إلهام، إننى أذهب بثقة واندفاعٍ متناهيين أذهب إلى الآلهة وأطرح أسئلتي..
على كلٍّ ثمة طريق تعلن عن نفسها وتلوحُ من بعيد، ثمة غموض يسكنها وليته يدوم هذا الغموض الآسر. ثمة ما يشبه النداء وما يشبه رجع الصدى. ثمة حنين مجهول إلى أبدٍ مجهول، ثمة ما يمكن أن نصفه بأنه فنى، ثمة ما يؤكد امتياز الحالة واختلافها وعلوّها الإنسانى الكاشف، ثمة ما يوسع نهمى ويزيد من سرعة تيارى، ثمة ما أود التخلص منه، ما أودُّ لو ألقيه كما يلقى النيلُ طَمْيَهُ على ضفتيه فتخضر الصحراءُ وينام أبى سعيدا فى قبره الفرعوني.
الرسام
 
والحديث هنا ليس موجها للإنسان العادى الذى يرى فى نفسه مجرد ثمرة فى الحقل وإنما موجه للإنسان الذى يرى فى نفسه الحقل ذاته.
وهذه نظرة لروح الفن وأدواته وأحواله تحاول تفسير العلاقة الأزلية، فى ثوبيها المعقد والبسيط، بين الفنان والجمهور وبين الأثر الفنى والمتلقى وتسعى إلى أن تكونَ مدخلا لقراءة الفن بكل أنواعه.
 
وإننا لن نستطيع أن ننتج فنا أصيلا ما لم نفهم العلاقة بيننا وبين المتلقى، إننا لن ننجح فى عزلتنا الفنية إلا بالقدر الذى نكون فيه متشبعين وممتلئين بهذا المتلقى، أى بواقعه وأحلامه وآماله وآلامه، مهما بعدت بيننا المسافات وحجبتنا الحدود والجغرافيا وجوازات السفر، كاشفين له عن نفسه وعن رؤية جمالية وممكنةٍ للحاضر والمستقبل، وفى المقابل لن نكون منصفين كمجمتع أو جمهور إذا أردنا لهذا الفنان لونا محددًا أو ثوبا معينا، إننا نخطئ كثيرا حين نصنع أطرا وبراويز ونضع فيها الفنان مطالبينه ألا يخرج عنها، وسواء فى ذلك أكان البروازا لقديس أو لشيطان_ فإذا قاوم وخرج عنها صببنا عليه جام غضبنا وسخريتنا.
ومثلما يولد العالم من رحم الصراع بين قوى الطبيعة والإنسان من جهة وبين الإنسان والإنسان من جهة اخرى، يولد الفن بتعبير الدكتور عبد المنعم تليمة فى كتابته مداخل إلى علم الجمال، من رحم الواقع ومن صراع الفنان مع هذا الواقع بكل ما فيه، ومن هنا كانت الحاجة إلى أن تكون علاقة الفنان بالجمهور شبيهة بالشهيق والزفير أو بحركة المدّ والجزر (إننا موجاتٌ من ذات البحر تحت سماء واحدة) كما يقول الشعر الصينى، بحيث تمنحه الشعور بالحرية وتمنكه من تأمل ذاته وفهمها والتصالح مع تناقضاتها وصراعها المستمر، والأخذ والرد وفهم  دوره فى المجتمع والعالم، وبالتالى من التعبير عن قضايا وهموم هذا المجتمع وذلك العالم، وفى الوقت نفسه تطرح للمتلقى مساحاتٍ وأسبابا مشتركةً بينه وبين العمل تُأهّلُهُ للاستقبال والتلقى وكأن جزءا غامضا وعميقا كان غائبا داخله بدأ يحضر ويتضح وينكشف رويدًا رويدًا كلما انْسجم واسغرق فى تأمل العمل.
 
تيتانيك
تيتانيك
يلحُّ على الآن أن أذكر لك فيما أذكر عن عالم التلقى موقفا مرَّ منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة أو أكثر، وهو أنَّ جماعةً من الطلاب الشعراء التفوا حول أستاذهم ذات نهارٍ فى حجرة يتشاركُها معَهُ معيدون آخرون، لكنها كانت مسرحا كبيرا مُهِمًّا لنا نحن جماعة الشعراء الملتفين، فى خشوعٍ ومرحٍ وحريةٍ تكادُ تُلمسُ باليد الرحيمة العارفة، كما يلتفُّ بسطاءُ العالمِ حول مواقدهم فى الشتاء.
    ولتعلم عزيزى القارئ أننى تعلمتُ التلقى من مصادرَ كثيرةٍ أهَمُّها وأعظمها أثرا حكاياتُ أمى وبرامج إذاعة الراديو الفنية والأشجار والبحر وشارع "النبى دانيال" والقاهرة التى لاتنام ولا تهدأ حتى فى أوقات الخطر، ومن مكتبة الشاعر والمناضل  نبيل قاسم، والتى قرأتُ ودرستُ فيها ما شكلنى من جديدٍ وأعاد َ تأسيسَ علاقاتى بالعالم، ومن قبلها دراستى للغة وآدابها بكلية دار العلوم، ولهذه الأخيرة نصيبُ الأسدِ فى تقويمى وتعليمى ومحبتى للغة والأدب والفنون، ولقد حظيتُ فيها باهتمامٍ خاص، إذ كنتُ الشاعرَ المختارَ من الجماعة ليضع الأستاذ اسمى وقصيدتى فى كتابه المُقَرّر على طلابه بالفرقة الثانية بالليسانس، وحظيتُ بأساتذةٍ عارفين مُلهمين متواضعين (كأستاذ الأدب الجاهلى وأستاذ النحو والصرف، ورائد جماعة الشعر "عبد العزيز الموافى" والذى التففنا حوله كثيرًا أيضا آنذاك مع صديقنا الشاعر محروس بريك) وغيرهم.
نعود إلى جماعة الشعراء وجلستهم (بالأمس كانت إحدى القنوات تعرض فيلم (تايتنيك) ويبدو أن معظمنا قد شاهده والحديث الدائر عن قصائدهم، ثم حول الرومانسية فى الشعر والأدب والفنون عموما.. يتوقفُ الأستاذُ فجأةً عن الحديث ويسألُ: هل شاهد أحدُكم الفيلمَ، وهل رأيتم آخرَ مشهدٍ جيدًا؟
المشهد يصور النهايةَ وفيها يتشبَّثُ البطلُ العاشقُ بقطعة من خشب السفينة المنكوبة الغارقة ومعه البطلة المعشوقة، ولما كانت الخشبةُ ضعيفةً والبحرُ يكادُ يتجمد ولن تصمدَ قشَّةُ النجاةِ هذه بهما معا، وعلى أحدهما أن يضحى بنفسه فى سبيل نجاة الآخر، ويختارُ المؤلفُ/المخرجُ أن يموتَ العاشقُ لأن البطولة تقتضى ذلك، كما أنَّ استمراريةَ الحياة تقتضى نجاة المرأة/ العاشقة، ولأن الأستاذ عاشقٌ مجربٌ وفنان، هو صديقنا الشاعر أحمد بلبولة،  أجاب بعد أن سمع مداخلاتنا وإجاباتنا المتنوعة: وإضافة لما ذهب إليه كلٌّ منكم، فإنَّ المرأة هى الرَّحِمُ والتجدُّدُ والحياةُ، فهتفتُ: وهى أيضا البحرُ والطبيعةُ.
سُقت لك هذا المثل وهذه الذكرى لأبينَ وأوضحَ مدى بساطة وعمق العلاقة التى تقوم بيننا وبين الأشياء وعلى رأسها علاقتنا بالفن، ألمْ يحتفِ تاريخُنا الإنسانى الممتدُّ بمثل هذه الموضوعات والأمثال والمشاهدِ ويخلَّدٌها من خلال الأثر الفنى، ثم ما يؤسسُهُ ويبنيه هذا الأثرُ من علاقاتٍ وفرضياتٍ ودلالاتٍ فى الوعى الفردى والجمعى أثناء عملية التلقى عبر الأمم والعصور.
.......
وببنما كنَّا من تراب وماء ولَوْنٍ، من نفْخَةِ نَفَسٍ صادقةٍ، ومن كلمةٍ منتقاةٍ ومُلقاةٍ بعناية، كم أعجبتنا اللوحةُ وأسَرَتْنا الكلمةُ وكم وكم شَعرنا بالعناية والنَّغَم، فلا اللون ينفدُ ولا الكلمة تجِفُّ ولا العناية تغفلُ أو يزولُ الأثر.
أثر حبيبتى الدائم، موسيقى ألف ليلة وليلة لكورسكوف، ولوحة (الفردوس الراقص) لسعد على، وقصيدتى التى تسكن بالى دائما، أوراقٌ طازجةٌ لم تمسَّ، وقلمٌ شغوفٌ متحفزٌ كالحصان لحمل كلماتى، ومؤونةٌ ودخانٌ يكفيان ثلاث ليال سويًّا.
أتمدَّدُ  وأتقلبُ من جنْبٍ لآخر، استقرُّ للحظةٍ، وأُصَفِّرُ كالحُوتِ الأزرقِ حين ينادى أنثاه، تعلو الموسيقى وتملأُ المكانَ، وتغسل روحى والسقفَ والحوائطَ وتنفضُ سُهْدَ الأريكة، تمسحُ قلقَ الستارة، وتُمَهِدُ الليلَ معى لمشاهدة هذه الرقصة، أقصد اللوحة، وتلقى هذا العمل.
أعتدلُ فى جلستى، أنصت أكثر لذاتى، أحاول فهم الحالة كلها الموسيقى واللوحة والقصيدة التى تسكن بالي، أتحسس مسيرة الصراع بين الثلاثة إلى أن يتناغموا ويَطيبُ لهُمُ المقام معا هكذا فى رقصة دائمة وحنونة.
وأفكرُ، الموسيقى ليست بعيدة عن اللوحة وهما معا ليسا بعيدتين عنى، كمتلقٍ هنا، وعن أحلام يقظتى ومنامي.
تختفى الموسيقى ببُطءٍ وهدوءٍ ويبقى أثرها الذى يشبه أثر المحبوب، قليلا طبعا، اللوحة أمامى أو بمعنى أدق أنا فى اللوحة، تغرقُ عيناى المفتوحتان فى بحر الألوان المختلط المحتفل السَّاهي، وذراعاى تحتضنان وتبتلعان المشهد. وقدماى  تتحسَّسُ موقعها فى الريح وترتجلان الرقصةَ والخطوات، وحواسى هائمة منتبهةٌ تلقائيٌّة معًا،
أمشى فى اللوحة وأفكر..
"أليست الفرضيات كثيرة هنا، ألسنا نبحث عن دلالات متعددة للصيغة الواحدة، أولسنا مختلفين حقا ومتمايزين ومتنافرين ومتناغمين.. إذا كانت الفرضياتُ كثيرةً والدلالاتُ تتعددُ بتعدُّدِ السياقات والظروف. فإنها أبدا لن تستوى _هذه الفرضيات_ جميعًا على درجة واحدة، كما أنَّ كثرة هذه الدلالات لا تعنى بالضرورة نجاح العمل _أى عمل_. 
إنما تصبح الفرضية الأكثر تمايزا وصدقا هى الفرضيةُ التى تسعى إلى الاقتراب من روح العمل ومحاولة قراءته وفك خيوطه وخطوطه وألوانه وكلماته ورموزه، والبحث عن دوافعه وعما وراءه، كذلك فإنَّ أنجح الدلالات وأقواها تلك التى تأتى من المُعطى الأول ثم تأخذُ فى التبلور ثم تترسَّخُ ثم تتشعبُ فتستوى شجرةً مثمرةّ تؤتى أكُلَها مع كلّ خطوةٍ نخطوها فى رحلتنا لمحاولة فهم العمل، وما يمكن أن تنتجَهُ هذه الرحلةُ وهذا الفهمُ لدى المتلقى العابر أو الشغوف المقيم أو لدى الدارس والباحثِ المتخصص والذى يطلُّ علينا الآن من نافذة المنهج والنظرية والمدرسة."
.. وأفكر..
أهذه رقصةٌ أم مناجاة، وهذه الوضعية التى لراقصة باليه خبيرةٍ تستعرض نفسها وحركاتها فى دلال وخفة وسكون قبل بدأ العرض،  أو أنها الأميرة شهرزاد تبدأ رقصتها المنفردةَ لشهريار _لإغوائه وإغرائه وإزاحة الكآبة الأسطورية التى تسكن روحه وتحرمه الأنس والنوم والرفقة الدائمة، وبينما هى على حالتها تلك _فى الروايات الشعبية والتصاوير التى تتناقلها الأجيال عبر العصور  والأمم_، حتى تحولت هنا فى حلم الفنان ولوحته إلى الفردوس ذاتها. لقد تحولت من مجرد ملكةٍ أو أيقونة أو رمز إلى شيء إلى الكل فى واحد والواحد المتضمن الكل.، إنها اللغزُ والمعجزةُ والطريقُ والرفيقُ والرحلةُ والجائزة.
 
 أهذه إذن المرأة/ الفردوس/ الأم الأولى/ الطبيعةُ حين ينامُ على ساعديها الربيعُ ويَصحو الربيعُ، كما يقول الشاعر الكبير عبد المنعم رمضان، وقد تحررتْ من فراشها على مهلٍ، تحممت فى البحيرةِ المقدسةِ فخرجتْ شفافةً بيضاءَ من غير سوء، جففتْ جسدَها فى الحديقة فاستيقظت الحديقةً، تناولت إفطارها من ماءٍ وشمس وهواء وتركت شعرها للريح، جلست طويلا أمام المرآة _مرآة الكون_  وفكرت.. وسألت نفسها وأسكرها السؤال وأغْرَتْها الغريزةُ.. ووصلت لذروة النشوة فتهيأتْ وخرجت راقصة طائرة ، تهتز جنباتها كما تهتز البئر والبحر والغيمةُ العابرة،  كلُّ عُضوٍ فيها يسافرُ فى جهةٍ ويحملُ أمْنِيَةّ ولَهُ روحٌ منفصلةٌ متصلةٌ، ويشيرُ إلى مقامٍ من مقامات الفردوس.
"فمن شريك الرقصة إذن؟ ولمَ لمْ يجعلْ لها الرسامُ شريكا فى رقصتها.؟
أكان لك شريكٌ أيتها الراقصةُ، ومنذ متى تسكنين بالَ الرسام  وتخطرين فى أحلامه وفى أية ليلة دخلتِ المرسمَ وبأى صباح تسللت؟
 ويأتى الصوتُ العميقُ من الداخل _كأنه يأتى من المثل والذكرى اللذين سُقْتُهُما لك سابقًا أو أبعدِ منهما_ هامسا: إنَّ شريكَ الرقصة ومُتمِّمَ رحلة العمل هنا هو أنت وأنا والجمهور الجالس على مقاعده الآن، والذى يميل برأسه صبوةً وانتشاءً مع كل حركة لون والتفاتَةِ خطٍ وإشارة جسد، إنه المتلقى بعد أنْ تأملَ وفكرَ وحاولَ الفهمَ واطمأنَّ إلى فرضياته وكثَّفَ الدلالاتِ وقارب بينها يصلُ أخيرًا، وكمؤمن يدخل جنته التى وُعِد بها أو ضالٍ وجدَ فردوسه المفقود يدخل اللوحة ويشاركها الرقصة.. رقصة والميلاد والبعث واللحظة الخالدة.
وإننا لنرى الألوان تتمايل وتتمازج وتتعانق صانعة دوامة دوارة تشبه فى حركتها حركة التنورة الصوفية أحيانا، كما أنها تصنع بحرا من الأمواج المتغيرة المتجددة أحيانا اخرى،  وإذا دققنا النظرَ والحسَّ أكثر _وحملَنا صبرُنا_ سنرى الغاباتِ بألوانها وعشبها وزهرها الأصفر والأحمر القانى والأخضر الخجول والرمادى المتدرج.
 غير أننا حين نفيق من نشوة الرقصة واللقاء سنجد أن هذه الدوامةَ وهذا البحرَ وهذه الغاباتِ يمثلون فى الأساس والأصل لون تنورة فستان المرأة(الطبيعة/ الفردوس) وقد تخلصتْ من أرقها وخوفها وارتدتْ كلَّ فصولها(الربيع والصيف والشتاء والخريف) وخرجت ترقص لابنها وأبيها وحبيبها الإنسان..
فلا اللونُ ينفدُ ولا الكلمةُ تجِفُّ ولا يزول الأثر.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة