نقرأ معا كتاب "مكيافيللى: مقدمة قصيرة جدًّا" تأليف كوينتن سكينر، ترجمة رحاب صلاح الدين، مراجعة هانى فتحى سليمان، والصادر عن مؤسسة هنداوى، وينطلق الكتاب من فكرة أن "مكيافيللى" نادى بضرورة أن يكون الزعماء السياسيون على استعداد للقيام بأعمال شريرة قد تثمر عن خير، ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه رمزًا للازدواجية واللاأخلاقية، فهل يستحق مكيافيللى هذه السمعة السيئة؟ يركِّز كوينتن سكينر فى إجابته عن هذا السؤال على ثلاثة أعمال رئيسية لمكيافيللى هى "الأمير" و"المطارحات" و"تاريخ فلورنسا" مستخلصًا منها مقدمة غاية فى الوضوح لمعتقدات مكيافيللى.
وُلِد نيكولو مكيافيللى فى فلورنسا فى الثالث من مايو عام1469، وأول ما يأتينا من أخباره هو دوره النَّشِط فى شئون مدينته ومسقط رأسه عام 1498، نفس العام الذى أُسقِط فيه النظام الحاكم بقيادة سافونارولا من السلطة، كان جيرولامو سافونارولا، الزعيم الدومينيكانى لسان ماركو الذى كانت خُطَبه النبوئية قد سيطرَتْ على الساحة السياسية الفلورنسية طوال السنوات الأربع السابقة لهذا التاريخ، قد اعتُقِلَ بتهمة الهرطقة فى أوائل شهر أبريل، ثم ما لبث مجلس المدينة الحاكم أن بدأ فى إقالة من بقى من مؤيِّديه من مناصبهم فى الحكومة. كان أحد أولئك الذين خسروا مناصبهم نتيجةً لذلك أليساندرو براتشيزي، رئيس الهيئة الاستشارية الدبلوماسية الثانية.
فى بادئ الأمر ظلَّ المنصب شاغرًا، لكن بعد تأخيرٍ دام لعدة أسابيع طُرِح اسم مكيافيللي، الذى لم يكن معروفًا تقريبًا، بصفته بديلًا محتمَلًا. فى ذلك الوقت كان مكيافيللى يبلغ من العمر نحو تسعة وعشرين عامًا، وكان من الظاهر أنه لا يملك أى خبرة إدارية سابقة، لكن ترشيحه لهذا المنصب لم يُواجِه أى صعوبة على ما يبدو، وفى التاسع عشر من يونيو صادَقَ المجلس النيابى حسب الأصول على تعيينه بمنصب المستشار الدبلوماسى الثانى لجمهورية فلورنسا.
حينما الْتَحَقَ مكيافيللي بالهيئة الاستشارية الدبلوماسية، كانت هناك طريقة راسخة للتعيين في مناصب الهيئة الرئيسية؛ إذ كان على المسئولين الطامحين لشغل هذه المناصب أن يُعْطُوا أدلةً تُظهِر مهاراتهم الدبلوماسية، كما كان يتعيَّن عليهم أن يُظهِروا قدرًا كبيرًا من الكفاءة فيما يُعرَف بالتخصُّصات الإنسانية. استُمِدَّ مفهوم «الدراسات الإنسانية» هذا من أصول رومانية، لا سيما من شيشرون، الذي أحيا الفلاسفةُ الإنسانيون الإيطاليون مُثُلَه التربويةَ في القرن الرابع عشر، وصاروا يمارسون تأثيرًا قويًّا على الجامعات وعلى طبيعة الحياة العامة في إيطاليا. تميَّزَ الإنسانيون في المقام الأول بالتزامهم بنظرية خاصة تتمحور حول المكونات الصحيحة للتعليم «الإنساني الحقيقي». كانوا يطلبون من طلَّابهم أن يبدءوا بإجادة اللغة اللاتينية، ثم ينتقلوا إلى ممارسة الخطابة ومحاكاة أرفع الكُتَّاب الكلاسيكيِّين شأنًا، ثم يكملوا دراساتهم بقراءةٍ وافيةٍ للتاريخ القديم والفلسفة الأخلاقية. وقد أشاعوا أيضًا الاعتقاد الراسخ بأن هذا النوع من التدريب يشكِّل أفضلَ تأهيلٍ للحياة السياسية. كما دأب شيشرون على التأكيد مرارًا على أن هذه التخصُّصات تعزِّز القِيَم التي نحتاج إلى اكتسابها في المقام الأول من أجل أن نخدم بلادنا جيدًا، والتي تتمثَّل في الاستعداد لإعلاء الصالح العام على مصالحنا الخاصة، والرغبة في محاربة الفساد والاستبداد، والتطلُّع لبلوغ أنبل هدفين على الإطلاق؛ الشرف والمجد لبلادنا ولأنفسنا أيضًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة