للعلاقات الدولية قواعد راسخة ما عادت تقبل الجدل بشأنها استناداً إلى دعاوى الخصوصية المعبرة عن حالة بائسة من الانكفاء على الذات، ومعاداة الحقائق والوقائع التى تفرزها حركة الدول والمنظمات الدولية، حكومية وغير حكومية، على الساحتين الإقليمية والدولية على السواء، إلى جانب تفاعلات الشركات الكبرى متعددة الجنسيات، أو العابرة للجنسيات، والشخصيات الدولية الفاعلة، باعتبار هؤلاء جميعاً أهم الفاعلين الدوليين فى العلاقات الدولية المعاصرة.
ولعل أهم ما يميز المشهد الإقليمى الراهن حالة الغليان التى تشعل الساحتين السودانية والجزائرية، فى تزامن لافت يؤكد أن الشعوب دائماً مُلهمة لبعضها البعض، مثلما التجارب الدولية بالغة الأثر فى تكوين وتشكيل وتوجيه الرأى العام.
وفيما يتعلق بالسودان فإن الرئيس السابق عمر البشير، الذى أتى بانقلاب عسكرى عام 1989، لم يكن له دور حقيقى فيه؛ وإنما أُتى به ليتصدر المشهد، وليدخل الترابى السجن كجزء من التعمية على حقائق الموقف التى تؤكد أن الأخير هو البطل الحقيقى للانقلاب، ثم خرج الترابى من السجن وشهدت علاقته بالبشير حركة متواصلة بين الصعود والهبوط، إلا أن قبضة الأخير على السلطة لم تفتر أبداً، وظل حتى بعد أن قضى 30 عاماً فى السلطة يُبشر شعبه بدخوله الانتخابات المقبلة عام 2020، بعد أن كان قد أعلن أنه لا ينوى الترشح!.
وقد بلغ الاقتصاد السودانى تردياً شديداً فى حقبة البشير بلغت حدوداً لم يستطع فى ظلها الشعب السودانى الطيب من جنى ثمار مقدراته الوطنية الضخمة؛ فعاش بما لا يتلائم وما تملكه البلاد من ثروات. بل فقد السودان جنوبه الثرى بالنفط؛ إذ كان الاستفتاء الشعبى الذى نظمه البشير للشعب السودانى فى الفترة من 9 إلى 15 يناير 2011 حول رغبة سكان الجنوب بالبقاء فى الدولة السودانية أو الانفصال.
ونظراً لحالة التهميش التى عانى منها أهل الجنوب فقد كانت إجابة سؤال الاستفتاء سهلة جداً، وعلى رأى جهابذة التعليم عندنا، فقد كانت الإجابة من صميم المنهج وفى مستوى المواطن المتوسط الذكاء. وعليه، انفصل الجنوب وأُعلن عن ذلك رسمياً فى 9 يوليو 2011، فى حفل كبير بعاصمة الجنوب "جوبا" حضره البشير ورئيس الجنوب سلفاكير، الذى كان نائباً للبشير، ومعهم عدد من الرؤساء الأفارقة.
وواقع الحال أن البشير ضحى بالجنوب الثرى مُشترياً بقاءه فى السلطة، حيث رضخ بذلك لضغوطات كبيرة من الغرب، وهو المتهم المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية، فآثر مُلاطفة المجتمع الدولى، وقد كان فعلاً وبقى نحو 8 سنوات إلى أن ثار الشعب "الشمال" ضده معتصماً أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني.
وهنا تبرز نقطة غاية فى الأهمية فى فهم عمليات انتقال السلطة فى الدول العربية؛ إذ أن المؤسسة العسكرية، مهما حاول النظام الحاكم احتجازها فى صفه، تظل دائماً محل ثقة الشعوب، ومنطلق آمالها فى حياة كريمة حرة. ولم تتردد المؤسسة العسكرية السودانية كثيراً فى الانحياز للشعب، وأتمت إزاحة البشير بنجاح، واعتقلته، ثم زجت به فى السجن رهن تحقيقات قضائية ستتوالى مع الأيام المقبلة.
وفى هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن الثورات الشعبية دائماً مطالبها فى تصاعد مستمر، فلو أن البشير كان قد استجاب للاحتجاجات العنيفة التى شهدها الشارع السودانى منذ أربعة شهور قبل نزعه من مقعد السلطة، لكان إرضاء الشعب السودانى أهون. أما وقد تأخر النظام السودانى فى التعاطى مع الأزمة، فقد طالت المطالب الشعبية، حتى أن رحيل البشير لم يعد كافياً، وبات الشعب السودانى يطالب بتغيير النظام ككل، حتى أن نائبه ووزير دفاعه، عوض بن عوف، الذى قام باعتقاله قدم استقالته بعد ذلك بـ 24 ساعة، فى حركة سريعة فى الاتجاه الصحيح، تشير إلى أن بقية المجلس العسكرى يستوعب طبيعة الثورات الشعبية، ولن يقاوم كثيراً رغبة الشعب فى تسليم السلطة لحكومة مدنية.
وبالتوازى مع انحياز المجتمع الدولى للتطلعات المشروعة للشعب السودانى، حسناً فعلت مصر، وكذلك السعودية والإمارات، فى إعلان مساندتها للشعب السودانى فى محنته، وهو أمر له دلالات أكثر من القيمة المادية للمساعدات؛ إذ يطمئن الشعب السودانى لجدوى حركته، واعتبار مصر والسعودية والإمارات "شهود عين" على ضرورة انصياع المجلس العسكرى السودانى الحاكم لمطالب الشعب السودانى. كذلك أحسن الرئيس السيسى حين تدخل بقوة فى الملف السودانى، مستضيفاً مجموعة من القادة المجاورين للسودان، فى قمة تشاورية، وطالبهم، باعتباره رئيساً للاتحاد الأفريقى حالياً، وبثقل مصر أيضاً، بمد المهلة أمام المجلس العسكرى فى السودان لتصل إلى 3 شهور، بعد أن كان 15 يوماً فقط، يستجيب خلالها لرغبة الشعب السودانى. ولست أتصور إلا أن المجلس العسكرى السودانى سيستجيب لمقتضيات الموقف، ولن يجابه مجتمعاً إقليمياً ودولياً، بات يُعلى من شأن الشعوب، وحقها فى تقرير مصيرها.
انتهى المقال، ولم نتحدث عن المشهد الجزائرى الموازى؛ فإلى لقاء قريب بإذن الله.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة