استناداً إلى التاريخ السياسى المقارن، وما سطره من تجارب أفضت إلى ديمقراطية حقيقية، فإن طريقنا صوب بناء دولة مدنية حديثة، شاق وطويل، يضيق ويتسع، ولا يخلو من المنعطفات الحادة، ولا يمكن فيه القفز على عوائق صعبة دون دفع كُلفتها.
وبالنظر إلى واقعنا السياسى، وما شهده من انفجار «طبيعى» فى عدد الأحزاب السياسية، إذ هو نتاج كبت سياسى عميق فى التجربة الوطنية، لذا فليس من المدهش أن تمتلئ الساحة السياسية بكثير من المزايدات، ولا ينقصها السعى وراء مصالح ذاتية تضيق كثيراً عن استيعاب المصلحة الوطنية.
من ذلك أن سعياً حثيثاً، نلمسه بوضوح، نحو كثير من «المظاهر» السياسية، علها تُضفى مسحة زائفة على أصحابها داخل تقييمات الرأى العام، ما يتيح مكاسب بعينها فى صراعات سياسية قادمة، أقربها الانتخابات المحلية، وأهمها الانتخابات البرلمانية.
وعلى قمة هذه «المظاهر» تأتى فكرة «حكومة الظل» التى أعلن عدد من الأحزاب عن تشكيلها، أو رغبته فى ذلك، وبحثاً عن رُشد سياسى، يؤسس لمشروعية الأمل فى تخطى عقبات الطريق نحو بناء دولة مدنية حديثة بكُلفة مقبولة، أود أن أُبدى الملاحظات التالية:
• بداية فإن أى سلبيات أوجهها إلى الأحزاب السياسية، لا يمكن أبداً أن تنال من قناعتى بحتمية وجود أحزاب سياسية حقيقية وقوية فى أى دولة مدنية حديثة؛ إذ هى عماد الديمقراطية، كما أخبرتنا نشأة الأحزاب وانتمائها للمد الديمقراطى.
> نأتى إلى فكرة «حكومة الظل»، فأقول إنها بدأت أيضاً فى بريطانيا، أعرق الديمقراطيات المعاصرة، أواخر القرن التاسع عشر، وتراكمت الممارسة إلى أن أصبحت قاسماً مشتركاً فى الحياة السياسية البريطانية منذ منتصف القرن العشرين، وعليه فإن «حكومة الظل» بالفعل مرادف منطقى لديمقراطية الحكم، وما تناله من تقدير مجتمعى، ما هو إلا جزء من ديمقراطية المجتمع ككل.
• نأتى إلى «المظهرية» الحاكمة لكثير من ممارساتنا الحزبية، شأن كل الديمقراطيات الناشئة، بحكم التعلم أو ادعاء العلم، واكتساب الخبرة أو محاولة ادعاء ملكيتها، وأحياناً بضغط من مصالح شخصية لا تتحقق دون بذل المزايدات السياسية، وملاطفة الحكم، وتقديم السبت، انتظاراً إلى الأحد!. يشير إلى ذلك بوضوح أن «حكومة الظل» كما هى موجودة فى كثير من الأنظمة السياسية الديمقراطية، إلا أنها أيضاً حاضرة، كذباً وزوراً، فى دول لا يربطها بالديمقراطية إلا عداء متأصل، جراء التصاق الحاكم بكرسيه، وانحسار الدولة فى شخصه.
• نعود إلى تجربتنا الوطنية فى مرحلتها الراهنة، فنجد عجباً لا يقل عن كثير من المدهشات المُبكيات فى حياتنا الحزبية، وإيجازاً خُذ منى:
- بعض الأحزاب المصرية الموجودة حالياً أعلنت عن تشكيلها «حكومة ظل»، وهى التى فشلت فى تخطى عتبة البرلمان، ولهم أقول: «حكومة الظل» وظيفتها الاستعداد إلى تولى الحكم إذا ما سقطت الحكومة الموجودة، ووسيلتها فى ذلك نقد الحكومة، أى بيان إيجابياتها وسلبياتها، وطرح سياسات بديلة تراها أفضل، وتربية كوادر سياسية قادرة على تحمل المسؤولية، فهل ننتظر من حزب فشل فى دخول البرلمان، أو نال كرسياً أو أكثر، أن يمتلك هذه الكوادر القادرة على منازلة الحكومة الحالية ومبارزتها سياسياً ببرامج وأفكار وسياسات جادة ومدروسة. الإجابة بوضوح وبكل تأكيد «لا».
- بعض الأحزاب عندنا رأى أن «حكومة الظل» تتيح سبيلاً إلى مغازلة السلطة، فقال إنه سيشكل حكومة لدعم الدولة!، ودعم الحكومة الحالية كذلك!. وإلى هنا نحن نهزل بالفعل فى موقع الجد، إذ ليس من بين وظائف «حكومة الظل» فى أى نظام ديمقراطى أن تدعم الحكومة الموجودة فى السلطة. ومن ناحية أخرى، فإن الرئيس السيسى الذى يستلهم قراراته وتوجهاته من أفواه الناس فى الشارع، ومن مؤتمرات علنية يعقدها مع الشباب، لا ينتظر من حزب سياسى أن يدعم حكومة اختارها، إلا بأداء سياسى متمكن وعلى قدر المسؤولية، منتجاً لسياسات ومبادرات أفضل مما تقدمه الحكومة، وليس نظام الحكم الذى وصل إلى موقعه بإرادة شعبية حرة فى حاجة إلى مزايدات تدمر مفهوم خبرته كل دول المتقدمة على طريق بناء دولة مدنية حديثة، فنبنى على أساس مُعوج، وعليه فإن دعماً حقيقياً للدولة المصرية وهى تصارع تحدياتها لابد وأن يتأسس على صحيح متطلبات بناء دولة مدنية حديثة، وفيها يكون الحزب الذى يشكل «حكومة ظل» منافساً حقيقياً وشريفاً للحكومة الموجودة فى السلطة، ومسؤولاً أمام شعبه، مقدماً تضحيات إمامها تغليب المصلحة الوطنية على المصالح الذاتية الصغيرة مهما كبرت فى عيون أصحابها.
وإلى الأسبوع المقبل بإذن، نواصل الحديث عن «حكومة الظل» فى التجربة الوطنية الراهنة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة