ننشر قصة محمد عبد النبى الفائزة بجائزة ArabLit للترجمة فى دورتها الأولى

الإثنين، 15 أكتوبر 2018 07:00 م
ننشر قصة محمد عبد النبى الفائزة بجائزة ArabLit للترجمة فى دورتها الأولى الكاتب محمد عبد النبى والمترجم روبن موجر
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

ينشر "اليوم السابع" قصة الكاتب والمترجم محمد عبد النبى، الفائزة بجائزة ArabLit آراب ليت، فى دورتها الأولى، والخاصة بالقصة القصيرة العربية المترجمة إلى لغة الإنجليزية، وهى قصة بعنوان "قصتنا" نقلها إلى اللغة الإنجليزية المترجم روبن موجر. وتقدر قيمة الجائزة بـ250 دولارًا يتقاسمها كل من مؤلف القصة ومترجمها.

ونشرت القصة الفائزة لأول مرة فى مجموعة قصصية للكاتب بعنوان "كما يذهب السيل بقرية نائمة" عام 2014 فى القاهرة عن دار ميريت للنشر، وقد فازت المجموعة بجائزة أفضل مجموعة قصصية فى معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 2015.

تشكلت لجنة تحكيم هذا العام من ثلاثة أشخاص هم: المترجمة ثريا الريس والروائية رقية عز الدين، والروائى معن أبو طالب – وقد أشاروا على وجه الخصوص إلى نبرة الصوت فى النص الأصلى للقصة وكيف ترددت وأعيد تشييدها فى النسخة المترجمة.

قصتنا.. للكاتب محمد عبد النبى

إذا أردتم أن تتخيلوا حال بلدتنا بعد جريمة القتل الأولى، فيمكنكم أن تتخيلوا سيدةً مُسنة تستعيدُ فجأةً مذاق رعشة اللذة، وكأنها رجعت مراهقة بجدائل فاحمة غليظة، يمكن للعشاق أن يتعلقوا فيها ويتأرجحوا. هكذا استقبلتْ بلدتنا المنسية أول أنباء القتل، برعشة خوفٍ لذيذ راح ينتقل من فمٍ إلى فم ومن دارٍ إلى دار. وإذا كان تشبيهنا السابق يروق لأحدكم يستطيع أن يعاينه بنفسه، ونحن ندعوه ألا يتردد فى رسم باب على هذا الجدار الآن، ثم يفتحه ويدخل، وسيجد بالداخل المرأة إياها مع مرآة فى يدها؛ مرآة صغيرة مكسّرة الحواف، يمكنها أن تجرح، وأن تقتل ربما، فى ظروفٍ بعينها، مرآة فقيرة تماماً مثل بلدتنا هذه، رغم مزارعها وبساتينها، باسمها الغريب، الفقير أيضاً، اسم عُملة قديمة تم الاستغناء عنها من قرون، فلعلّكم ابتسمتم بينما تقرؤون أخبارنا الأولى فى صُحفكم، أو على شاشات الكمبيوتر طبعاً، وقلتم: "بلد اسمه عجيب جداً".

لا تخافوا على صاحبكم الذى دخل إلى المرأة قبل قليل، وأغلق من ورائه الباب، سيكون قادراً على الرجوع فى أى وقتٍ يشاء، المشكلة أنه قد تفوته القصة.

نعم، فى بلدتنا قاتل طليق، وهو واحد من أهلها بالتأكيد، ليس غريباً أو عابراً، فنادراً ما يزورنا غرباء، وإذا زارونا لا يبيتون ليلتهم بيننا، رغم أن فنادقنا نظيفة وأسعارها معقولة كما اكتشفتم بأنفسكم، وحتى إذا حدث أن باتَ بعضُهم هنا ليلة أو أكثر يبقى تحت أعيننا لحظةً بلحظة، ويُحصى بعضُ أهل البلدة حركاته خطوةً خطوة، ليس من باب التجسس على الآخرين، فلسنا همجيين، بل لمجرد اختزان تلك المشاهد عند الحاجة إليها أيامَ الفراغ، حين يُذكّر بعضنا البعض بطريقة مشى هذا الغريب أو بثياب تلك الزائرة، وهكذا تمر الليالى، لكن لماذا قد يزورنا زائر؟ فليس لدينا شواطئ صالحة للسباحة واللعب، ولا صحراء فاتنة مُرصعة بالسراب والواحات وعيون الماء، ولا جبالنا بها معابد أو كنائس تاريخية، بل إننا لا نملك مزاراً لولى صالح واحد. تعرفون هذا من الآن، فلا تقولوا وأنتم تنفخون: "لا شيء يستحق الرؤية فى بلد الشيطان هذا"، نعرف أنكم لا تقصدون الإساءة، فلن نغضب، وإن كان غضبنا مثل فرحنا سريع الزوال، وربما تقصدون بالشيطان قاتلنا الطليق، ولتسمعوا قصته من بدايتها بألسنتنا نحن.

أول الأمر عثرنا على سائق عربة أجرة مخنوق بحبل، رأسه مستريح على عجلة القيادة، ولسانه متدلٍ من فمه وكأنه يغيظ رجال الشرطة، الذين تجمّعوا حولَ مسرح الجريمة فى الساعات الأولى من الصباح، بأزيائهم البنفسجية اللامعة التى تميز شرطة بلدتنا. كانوا مرتبكين، فرغم أنهم تلقوا تأهيلاً لا يختلف كثيراً عما يتلقاه رجال الشرطة لديكم، فإن الخبرة لا غنى عنها فى مثل تلك الظروف، وهم من هذه الناحية صحيفة سوابقهم بيضاء تماماً، مثل ضفائر هذه المرأة التى اختلى بها الآن ضيفنا الجريء، ليكتشف بنفسه كيف يمكن لتشبيه أن يتحول إلى جسدٍ حي.

رد فعلنا الأول كان الذهول والصمت التام. لم ندر ماذا علينا أن نفعل، فهل نخاف؟ هل نتحمس؟ هل نحبس أولادنا فى البيوت؟ هل نتوب إلى الله؟ وبعد أيام، والشرطة مازالت مرتبكة، تجرأ أحدنا على الكلام حول الواقعة، وشجّع هذا آخر إلى جواره على مناقشة الموضوع معه، وهكذا رُحنا جميعاً نتخبط بين علامات الاستفهام وعلامات التعجب؛ علامات بأحجام مختلفة، تتحرك وتقفز بألوان فسفورية حادة شأن كل شيء فى بلدتنا، ونرجو ألا يؤذى أعينكم المرهفة هذا الإفراط فى التلوين. وبينما نتخبط رحنا نتحدث ونتحدث: أليس من حقنا أن يكون لدينا نحن أيضاً مجرمون مخيفون؟ هل من حق المدن الكبرى وحدها أن تحتكر السفّاحين كما تحتكر صناعة السينما والمشروبات الغازية والفضائح السياسية، إلى آخره، وأنتم أدرى منا بكل هذا؟ وربما تكون هذه الحادثة هى نقطة انطلاقنا، مجرد بداية نحو المجد والتاريخ والخلود، إلى آخره، وكلها أشياء طالما سمعنا عنها من خلالكم، وطبعاً أنتم أدرى منا بها. المهم، عادتْ العجوز صبية وحلّتْ ضفائرها، وراح الناس يدربون ألسنتهم على إخفاء لكنتهم المحلية، استعداداً للتحدث إلى وسائل الإعلام، لعلكم لاحظتم هذا أيضاً، وانتظرنا وصول كاميرات وميكروفونات المحطات الفضائية، والمراسلين والمذيعات، وطال انتظارنا، ولم يشغل خبر مقتل سائق الأجرة إلا سطوراً قليلة لديكم، ونسيه الجميع الأمر كأن لم يكن، وأوشكنا على اليأس، وجاهر البعض بكراهيته لهذا القاتل الذى أغرانا بالأمانى ثم انتهى أمره قبل أن يبدأ، لكننا قبل أن نُسرّب آخر قطرات الأمل من نفوسنا وقعتْ الواقعة الثانية.

أبلغت عائلة كبيرة من مالكى مزارع العنب عن اختفاء صغرى الحفيدات، دُمية جميلة لم تصل بعد إلى سن المدرسة، وكما علمتم من الصحف فقد نشط الأهالى فى البحث، نحن، فها أنتم ترون بأعينكم من قرأتم أنهم نشطوا فى البحث، نعم، نشطنا، نعم، بحثنا، وليتكم كنتم معنا وجميعنا غرقى فى بحرٍ من الحماس والعرق والخوف واللهاث، ونداء أمها الشابة الجميلة باسم ابنتها يتردد فى كل ركنٍ من البلدة. هذا مشهد جيد جداً، نُشير إلى هذا الآن، إذا فكّر أحدكم فى تحويل الحكاية إلى عملٍ دراميّ. كنا واثقين من موت الصغيرة، فقاتلنا لن يخذلنا، وكلٌ منا يتمنى فى نفسه أن يكون هو من يعثر على جثتها قبل الآخرين، حتى يندس اسمه على الأقل بين سطور الخبر، لكن لم يجدها سوى أعمامها أنفسهم، غير بعيدٍ عن سياج مزارعهم، نائمة على إطار شاحنة، وتسبح على سطح إحدى قنوات الرى، مغمضة العينين وبين يديها كيس الفشار مازال ممتلئاً.

لا تفاجئنى نظرات الدهشة على وجوهكم كلما قلتُ شيئا مثل إطار شاحنة أو قنوات رى أو حتى كيس فشار، لو أقمتم بيننا لبعض الوقت لاكتشفتم المزيد بأنفسكم من أمارات التقدم والحضارة.

كلا، لم يُهتَك عرضها، قاتلُنا عفيف مع هذا، ليس وحشاً، ولا جدوى من البحث عمّا يربط سائق الأجرة بالحفيدة الصغيرة، فهذه أمور نراها فقط فى أفلامكم، أو ربما هى عادات السفاحين لديكم أنتم، الاختيار وفق صفات محددة، أو حسب ترتيب يُمليه مرضٌ نفسى أو هوسٌ مسيّطر. إنه إنسان طبيعى تماماً، مثلنا جميعاً، ربما يعانى الضجر، ربما يبحث عن شيء لا يعرف اسمه، شيء يعيد له إحساسه بوجوده. إن بدا لكم هذا تعاطفاً مع القاتل فلا بأس، هذا أيضاً تعلمناه من أفلامكم.

ثم نأتى للواقعة الثالثة، والتى جرت فى قيظ الظهيرة الذى هو لدينا كالمهل يشوى الوجوه، وداخل دار السينما الوحيدة بميدان البلدة، التى تدور مراوح سقفها مثل دوامات عنيدة لها أزيز يغطى على حوار الممثلين والموسيقى التصويرية. قيل إنه كان يضع قبعة عريضة الحواف، قبعة تقليدية يستعملها أغلب المزارعين والعمّال هنا، ويخفى عينيه تحت نظارة سوداء. هل هذا يعنى أن الفاعل المجهول ذكر؟ ألمح آخرون إلى احتمال العكس، وأنها أنثى رفعت شعرها تحت القبعة، لكن من يدري؟ موظفة شباك التذاكر ذكرت أنه أسمر، لكن البوّاب الذى تناول منه التذكرة قال إنه أشقر، أمّا الوحيد الذى لم يُدلِ بدلوه فى هذا الجدل فقد كان العامل الذى أرشده إلى كرسيه وقاده بمصباح يدوى فى القاعة الواسعة المظلمة، ذلك لأنه تلقى طعنة خنجر عميقة، بين ضلوعه، فانحطّ فى مكانه بين الصفين الأخيرين، نازفاً حياته بهدوء، بينما تنسج المشاهد الافتتاحية بوادر قصة الحب. واختفى الشبح بالطبع قبل افتراق البطل والبطلة، ولم نكتشف جثة الضحية إلا بعد قُبلة النهاية السعيدة. عندئذٍ فقط استطعنا أن نجذب انتباهكم، جئتم بربطة المعلم كما يُقال، وبدأ أخيراً الهرج والمرج، الآن وقد أتيتم وانتشرتم فى الأماكن الحقيقية للأحداث، بدأت اللعبة الحقيقية، الآن لن يستطيع صاحبنا أن يتراجع بالمرة، بعد أن كسب كل هذا القدر من الجمهور.

سوف نذهبُ معاً إلى مشوارٍ صغير، حتى مجلس المدينة، حيث يُقال إن مفاجأة جديدة وقعت قبل دقائق، حين تلوى ثعبانٌ من الدم خارج دورة مياه السيدات هناك، فانتبه الفراشون للضحية الجديدة، موظفة قديمة عُرفت بجديتها وإخلاصها للعمل.

وصلنا، كما ترون فإن زيارة مجلس المدينة شيء يستحق الجهد، المبنى تحفة هندسية عتيقة، ومع ذلك فاقتربوا هنا، ها هى، مازالتْ الضحية تسبح فى دمائها الطازجة، وتبتسم ابتسامةً مضيئة لم يرها أحدٌ على وجهها فى السابق وهى حية تُرزق. تستطيعون طبعاً التقاط الصور، نحن بلدةٌ كريمة. لاحظوا هذه الابتسامة النورانية على وجه القتيلة مثل مَن تجلى له الله دون إشعارٍ مسبق، لا بدّ أنها ماتت سعيدة، بعد أن عرفت أخيراً هوية القاتل الذى يحيّر الشرق والغرب، الأمر الأروع أنها سوف تحتفظ لنفسها بهذا السر إلى الأبد. لم تنتهِ قصتنا بعد، فابقوا معنا.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة