فاطمة ناعوت

الأصنامُ الأربعة

الأحد، 06 أغسطس 2017 10:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
أشرتُ الأسبوع الماضى إلى الأصنام الأربعة التى ترسّخت فى العقلية الإنسانية على مر العصور وزرعت فى عقولنا جميعًا مجموعة من الضلالات والخرافات والتقاليد الفاسدة التى تباعد بيننا وبين جوهر العقل الصافى ومعدنه الأصيل الذى خلقه الله فينا لنصل به إلى الحقيقة، كما رصدها فرنسيس بيكون فى كتابه «الأورجانون الجديد»، وأقرّ بوجوب تحطيمها حتى نفيق على حال الوعى والتحضّر. واليوم أفنّد لكم تلك الأصنام، حتى نحاول تحطيمها فينا، وفيمن حولنا.
 
أول تلك الأصنام، صنمٌ جمعىٌّ عام يخص الجنس البشرى بكامله، هو «صنم القبيلة» Tribe Idol لأنه يخص «قبيلة الإنسان». وهو الهوى الشخصى وكافة الاعتقادات الزائفة المغروسة فى الطبيعة الإنسانية، فتشكّل أحلامه وأمانيه وحدوسه التى تنزع نحو التعميم فى الأحكام وعدم تحليل الأمور على نحو علمى منطقى، بل على العكس تجعل الإنسان يُسلّم دون وعى بمعتقدات قبيلته أو عرقه أو جماعته. فالعقل البشرى لا يقبل إلا ما يوافق نزعاته وميوله، ولا يتلفت إلى التجارب التى لا تتفق مع رؤاه وترضى ميوله، لهذا نستسلم للخرافة والسحر والأحلام والتنجيم.
 
الصنم الثانى يخصُّ كل إنسان على حدة. هو «صنم الكهف» Cave Idol. وهو استلهام من قصة الكهف التى نسجها أفلاطون ليدلل على أن الإنسان، كل إنسان، أسيرٌ فى كهفه الخاص المعزول عن الرؤية الشاملة الخاضعة للمنطق والعلم. فكل إنسان هو عبدٌ تابعٌ لبيئته الخاصة ومستوى تعليمه وثقافته وظروفه الخاصة وتجاربه الشخصية وملكاته وعيوبه. كل ما سبق يحاصر عقلَ الإنسان ويفرض عليه لونًا من العزلة فيظل متقوقعًا فى كهفه المحدود، ولا يرى من العالم ومن الحقيقة إلا ظلال أفكاره وتجاربه الشخصية الضيقة. أما قصة أفلاطون فتحكى عن مجموعة من البشر مقيدين بالسلاسل داخل كهف مظلم ليس به إلا فتحة صغيرة، موجودة خلف ظهورهم. فلا يشاهدون من الحياة الخارجية إلا ظلال البشر السائرين بالخارج المنعكسة على جدار الكهف المقابل لعيونهم. وفق منهج أفلاطون، فإن العالم الخارجى، خارج الكهف، هو عالم المُثُل وهو العالم الحقيقى غير المرئى لنا، وأما داخل الكهف، فهو الحياة التى نعرفها على الأرض وهى زائفة لا ترى من الحقيقة إلا ظلالها.
 
أما الصنم الثالث، فهو «صنم السوق» Market-place Idol، وهو الآراء والمعتقدات المغلوطة الناتجة عن تواصل البشر وتبادلهم المعلومات دون علم. وينتج عن هذا الصنم تشويه المصطلحات والتعريفات وتعميم الأمور، بسبب تداول البسطاء والعامة والدهماء لآراء علمية دون فهم ولا دراية ولا دراسة. فى المقاهى والأندية والأسواق وغيرها من مناطق تجمع الناس، يتداول الناس فى شؤون الحياة والطبيعة والسياسة بلغة مشتركة بعيدة عن المنطق، فتفقد الألفاظُ دلالاتها الحقيقية وتستقر فى الأذهان مجموعةٌ من المغالطات المشوهة.
 
وفى الأخير، نصل إلى الصنم الرابع والأخطر. وفيه تكمن آفةُ عصرنا الراهن فى المجتمع العربى.
 
«صنم المسرح»، Theatre Idol، وهو تزييف المصطلحات على يد الإعلام والنخبة. إنها الأفكار المغلوطة التى نتداولها عن المذاهب والمدارس الفكرية التى تشكّلها القيادات والمشاهير ذوو النفوذ والتأثير المجتمعى العميق على الأفراد فى كل مجتمع. وهى الآراء التى تناقلناها عن أفواه السلف القديم دون تفكير. وبالرغم من أن بيكون كان يقصد «بالسلف» أرسطو وأضرابَه من فلاسفة الإغريق الذين ناصبهم العداء، إلا أن الأمر ينسحب اليوم على كل من نراهم علماء أجلاء وفقهاء فى كل عصر ومكان. نحفظ أقوالهم ونسلّم بها ونتداولها ونرددها كالببغاوات دون أن نتدبر أقوالهم ونفنّد ما بها من مغالطات علمية أو آراء قد لا تصلح لزماننا الراهن. إنه التسليم المطلق بصحة تلك الآراء دون ذرة شك تخالجنا فى جواز خطأها أو نقصها. ودلّل بيكون هنا بمثال عن العالم جاليليو الذى أثبت بالتجربة العملية أننا لو ألقينا من مكان عال بحجرين، أحدهما يزن رطلا والآخر يزن عشرة أرطال، فإن كليهما سيصلان الأرض فى نفس اللحظة. ورغم أن تلك التجربة قد شهدها أساتذة فى الفيزياء وعلماء رياضيات وشهدوا بصحّتها، إلا أن المشاهدين أنكروا التجربة وكذّبوا عيونهم لأن أرسطو قد قال (قبل قرون) إن الحجر الأثقل وزنًا سوف يصل إلى الأرض أولا، دون أن يقدم دليلا عمليًّأ على ذلك. لكن للأقدمين سحرًا ومصداقية غير مبررة. تلك المغالطات الفكرية هى التى تشكل المنظومة الفكرية والدوجمائيات التى تم تلقينها للمجتمع لتُسيّر حياتنا الراهنة، وهى غير قابلة للنقد بزعم أن كل ما قاله الأقدمون خطٌّ أحمر لا يجوز الاقتراب منه. والتشبيه الذى أراده فرنسيس بيكون هنا يصوّر البشر بمجموعة من المتفرجين فى عرض مسرحى يمثّله الأقدمون على خشبة المسرح فى عرض هزلى زائف تم حبكه من منظومة من الأحكام المسبقة غير العلمية غير الدقيقة، وهى التى تقف حجرًا عثرًا فى وجه الحقيقة، فتمنعنا من مشارفتها.
 
ما أكثر ما تنطبق أفكار فرنسيس بيكون بقوة على لحظتنا الراهنة بكل ما تحمل من فوضى وعبثية وافتقار للعلم فى مجتمعاتنا العربية. وبالأخص صنما: «السوق» و«المسرح». أظن أن لا مهرب لنا من مأساتنا الفكرية العربية الراهنة إلا بتبنّى مقولة بيكون العاقلة: «لا تقرأ لتعارض وتُفنّد، ولا لتؤمن وتُسلّم، ولا لتجد ما تتحدث عنه، بل اقرأ لتزن وتفكر وتحلل».









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة