عذرًا فضيلة الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، أشعر للمرة الأولى وأنا أكتب أننى أسير فوق حبل مشدود، لأسباب منصب توليته تجعلنى أدقق فى كل كلمة وحرف، حتى لا يُحسب كلامى إلا فى إطار أنه تعبير عن رأيى الشخصى، وأبدأ بسؤال فضيلتكم: إذا لم تكن داعش كافرة، فمن هو إذن الذى ينطبق عليه هذا المفهوم؟.. فمنذ أن صرحت فضيلتكم أمام طلاب جامعة القاهرة فى ديسمبر 2015، بأنك لا تستطيع أن تكفر داعش ولكن تحكم عليهم بأنهم من المفسدين فى الأرض، وسار شيوخ الأزهر الأجلاء على هذا النهج، يقدمون المبررات والأسانيد الشرعية والدينية، بأن داعش ترفع الأذان وتقيم الصلاة ولا يمكن تكفيرها.
والسؤال هنا: لمن نذهب إذا تخلى الأزهر الشريف عن قيادة معركة تصحيح المفاهيم، وتطهير العقول من الألغام، التى هى أشد خطورة من حزام الديناميت، الذى فجره إرهابى الإسكندرية، معتقدًا أن الجنة والأنبياء والصديقين والشهداء فى انتظاره؟ وهل تكفى بيانات الشجب التقليدية، فى وقت يخوض فيه الوطن حربًا حقيقية؟.
لقد نزلت على القلوب غشاوة وعلى العقول عتمة، لم يواجهها شيوخنا الأجلاء بإيقاظ روح الإسلام وعظمته وسموه ووسطيته، وجعلت فى وطننا بشرًا يؤمنون بأن قتل أبناء وطنهم جهاد فى سبيل الله، وأن أحزمة الديناميت الناسفة، هى أكاليل الخلود فى الآخرة، وأن تفتيت أجساد الأبرياء أعلى مراتب الإيمان، وأن القنابل والمتفجرات هى تذاكر دخول الجنة، حيث ينتظرهم أهلها ليباركوا أعمالهم، فانطلقوا فى غيهم وطغيانهم، يقتلون زهرات شبابنا من الضباط والجنود فى سيناء، ويقول رسولنا الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام «عينان لا تمسهما النار، عين بكتت خشية من الله، وعين باتت تحرس فى سبيل الله»، فمن إذن الذى ينطبق عليه مفهوم الكفر؟.
قنابلهم ومتفجراتهم تدمى قلوب أمهات وآباء الشهداء، وترمّل زوجات فى مقتبل العمر، وتحكم على أطفال أن يعيشوا اليتم دون ذنب.. وآه لو تعلم فضيلتكم مشاعر أم تدفن فلذة كبدها، ولوعة زوجة لن تحتويها أحضان زوجها، وأحزان طفل طلبت منه المدرسة حضور والده حفل نهاية العام، فسأل عنه ولم يجده «بابا مسافر».. فمن الذى قتلهم وسرق أفراحهم وأغرقهم فى الأحزان؟.. إنهم إرهابيون وقتلة ومجرمون، استغلوا تعاليم الإسلام الذى يحرم إراقة الدماء، فى إفساد الأرض وزرع أفكار ملغومة فى عقولهم، لم تجد من يجتثها من الجذور، ويطهر عقول أصحابها من النار والبارود.
تعلمون فضيلتكم أن مصر فى حرب، ويتكالب عليها الشياطين وحلفاؤهم فى الداخل والخارج.. وتعلمون فضيلتكم أن الإسلام برىء منهم ومن جرائمهم إلى يوم الدين، وأن هناك من يحركهم ويحرضهم من الطامعين فى السلطة والحكم، والاستيلاء على أقدار ومقدرات البلاد.. وتعلمون فضيلتكم أن المصريين يكرهون أفعالهم وانتزعوا سلاطينهم من فوق كراسيهم، وأكرر السؤال: لمن نذهب غير الأزهر ليقود معركة تصحيح المفاهيم، وتطهير العقول من الألغام، التى هى أشد خطورة من حزام الديناميت، الذى فجره إرهابى الإسكندرية، معتقدًا أن الجنة والأنبياء والصديقين فى انتظاره؟ وهل تكفى بيانات الشجب التقليدية، فى وقت يخوض فيه الوطن حربًا حقيقية؟.
بحت الأصوات وتعبت النداءات من مناشدة فضيلتكم، أن تقودوا استعادة الوعى الدينى الصحيح، لتنقية المفاهيم من مستنقعات الدم وأصوات الرصاص، خدمة لله والدين والوطن والعباد، ولكن لم تجد تلك الدعوات طريقًا إلى فضيلتكم ولا إلى الأزهر الشريف، لم يطلب أحد إلا الاحتكام إلى صحيح الدين، دون المساس بثوابته وأوامره ونواهيه، ودون الاستسلام لجدل نظرى حول قضايا خلافية أرهقت عقول علماء المسلمين منذ مئات السنين، ووصلت بهم إلى مزيد من الجدل والتناحر والتنافر، الذى يفرق القلوب ويشتت الجمع ولا ينفع المسلمين.. لا نريد ذلك وإنما نتعشم فى فضيلتكم، أن تنيروا مشاكلنا المعاصرة وأوجاعنا المستمرة، بآراء فقهية تدحض كل ما يسىء إلى الإسلام، أو توظيفه لصالح فئات مارقة، تريد اختطاف الدول واستعباد الشعوب، باسم الدين.
لم نسمع مثلًا حسمًا لقضية العلاقة بين المسلمين والأقباط، شركاء الوطن والسراء والضراء، لتكون رسالة الأزهر المعتمدة فى هذا الشأن، هى المرجع الموثق فى كل مناحى الحياة، ولغياب هذا الدور يخرج علينا من هم مثل الشيخ برهامى بحديث، يمكن لأى شخص أن يشاهده على اليوتيوب، يتهم فيه المسيحيين بأنهم كفار، وكلام آخر أعجز عن كتابته، ونتيجة الصمت وغياب المفاهيم، يؤيده أحد المسؤولين فى الأوقاف، الذى هو أيضًا خريخ الأزهر، ليقول إن برهامى ملتزم ومصرح له بالخطابة، إذن «احنا رايحين على فين؟».
عذرًا فضيلة الإمام الأكبر إذا سمحت لى أن أقول إن الذى يفسد جهود تجديد الخطاب الدينى هم «بعض» رجال الدين، حتى لا يفقدوا سطوتهم المستمدة من تعطيل العقول وإشاعة المعتقدات الرجعية التى سادت فى عصور التخلف والظلام، فالتجديد يعنى إلغاء وكالة السماء التى تمنحهم حقوقًا سامية للمتاجرة بالإسلام، ويفقدهم السيطرة على الأتباع والمريدين والأهل والعشيرة، فيقاتلون سرًا وعلنًا حتى تظل المعركة تائهة فى «عتمة التجديد».
لم يخرج علينا «مجدد» ليقول بصريح العبارة، إن الإسلام ليس دينًا وسياسة، لأن هذا معناه عودة المشايخ إلى ثكناتهم وحصر دورهم فى الوعظ والإرشاد، وإقصائهم من مجالس الحكام والأمراء ونفيهم فى المساجد والزوايا، وحرمانهم من غواية السيف التى هى أكثر مضاء من محاسن الوعظ، وإبعادهم عن تكايا السلطان التى هى أحسن نفعًا من أروقة العامة والدهماء.. علاوة على أن تغلغل المشايخ والوعاظ تحت جلد المجتمع وفى المحافل العامة والميديا، يمنحهم القوة والعزيمة، ويجعلهم أكثر شهرة من نجوم السينما ولاعبى الكرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة