إن الناظر بحق وعمق فى واقع الأمة ليدرك مدى الضعف الذى دب فيها منذ سنين عددًا، وتغيير هذا الواقع ليس بالأمر السهل اللين كما يظن البعض، بل يحتاج لبذل جهد، وتضافر جهود، وصدق يقين يحدونا الأمل والاعتقاد فى الله لبلوغ أهدافنا، وإذا أصابنا اليأس فإننا سنصبح جزءًا لا يتجزأ من مشكلات أمتنا... لكن ومع ذلك ينبغى أن نكون على وعي تام أن التفاؤل المطلق من غير الأخذ بأسباب التقدم والرقى، يجعل مصيرنا إلى الذوبان فى الأمم المتغلبة.
ونحن الآن أمام نضال حقيقى لإثبات وجودنا فى هذه الحياة، ومواجهة التحديات والعقبات والأزمات التى نعانيها والتغلب عليها.
وأول هذا النضال، توعية الأجيال بأهم قضايا الأمتين العربية والإسلامية «قضية القدس»، حتى لا تندثر عبر مجاهل النسيان.
ومما لا شك فيه أن النسيان نعمة كبرى من نعم الله على الأفراد، لأنه يخفف من وقع المصائب على الفرد، بل ويعيد حياته إلى سيرته الأولى، لكن النسيان للأمم آفة كبرى من آفاتها، وثمة فرق بين النسيانين، فإن الأمم إذا نسيت تاريخها وقضاياها فلن تقدر على النهوض من كبوتها إلا بالعودة إليه مرةً ثانية، فمن ليس له ماض لن يكون له حاضر أو مستقبل.
ومعركة أمتنا العربية الكبرى الآن تدور حول هويتها متمثلةً فى قضيتها الكبرى والأساسية وهى قضية القدس.
فالقدس مدينة عربية منذ بدء التاريخ إلى يوم الناس هذا، وستبقى عربية، بإذن الله، ما دام فينا عرق ينبض، ولا يمارى فى ذلك إلا من ليس له أدنى معرفة بتاريخ هذه القضية، وحتى يتم الحفاظ على هذه الهوية، فلابد من معرفة تاريخ القضية، ومعرفة طبيعتها ومؤشرات الضعف والقوة التى مرت بها وفق وضوح فى الرؤية وفكر سليم قادر على رؤية أسبابها وجذورها، وتناقضاتها الداخلية، وعلاقتها مع الأطر والقواعد الخارجية، ومقاومة وصد التغريب والغزو الفكرى الذى ينحو إلى السرية وسلوك المسارب الخفية.
فالقدس الشريف كانت ومازالت مقصد الناس منذ زمن بعيد، لأن المسجد الأقصى أسس فى الزمن الذى أسس فيه البيت العتيق بمكة.
والقدس لها أسماء كثيرة، وقديمًا قالوا: إن كثرة الأسماء تدل على علو مكانة المسمى، حتى قال ابن حجر، رحمه الله: «ولبيت المقدس عدة أسماء تقرب من العشرين». فتح البارى «4/64»
وأقدم أسمائها: إيبوس، نسبة إلى « اليبوسيين» العرب، وهم من بطون العرب الأوائل، ويعتبر اليبوسيون السكان الأصليين للقدس، فهم أول من سكنها حينما نزحوا إليها مع من نزح من القبائل العربية الكنعانية حوالى سنة «2500 ق.م».
ومن أسمائها: مدينة السلام «أور- سالم»، وقد وضعه لها «الكنعانيون» العرب، والاسم منسوب إلى «سالم أو شالم»، وهو إله السلام عند الكنعانيين، وظل هذا الاسم يحرف حتى ورد بلفظ «أورشاليم».
وظلت هذه المدينة بأيدى اليبوسيين والكنعانيين حتى نبى الله داود عليه السلام «1409ق.م»، فأطلق عليها اسم «مدينة داود»، واتخذها عاصمة له، ثم آلت من بعده لابنه الملك سليمان، وازدهرت فى عهده ازدهارًا معماريًا كبيرًا، وفى هذه الحقبة سادت الديانة اليهودية فى المدينة.
ومن أسمائها: إيلياء، نسبة إلى جد الإمبراطور الرومانى «هادريانوس» الذى قام بتدمير القدس تدميرًا شاملاً، حيث أقام مكانها مستعمرة رومانية سماها «إيليا كابتولينا» سنة «135م»، وظلت تعرف القدس بـ«إيليا» فى العصر البيزنطى «330-636م»، ذلك العصر الذى اعترف فيه بالديانة المسيحية كديانة رسمية للإمبراطورية البيزنطية، عندما اعتنقها الإمبراطور «قسطنطين»، وفى عهده قامت أمه الملكة «هيلانة» ببناء كنيسة القيامة سنة 335 م، وبقى الاسم «إيلياء» حتى عهد عمر بن الخطاب، رضى الله عنه.
ومن أسمائها: بيت المقدس، والقدس، قال ناصر خسرو: «وفى الخامس من رمضان سنة «43هـ/ 16 مارس 1047م» بلغنا بيت المقدس، وكان قد مضى على خروجنا من بلدنا سنة شمسية، وطوال رحلتنا لم نقر فى مكان قط ولا وجدنا راحةً كاملةً، وأهل الشام وأطرافها يسمون بيت المقدس «القدس». سفر نامه، ص55.
هذه بعض أسماء المدينة المقدسة، لكن ما نريد أن نؤكد عليه أن أول طريق المحافظة على الهوية هو يقظة الانتماء، وأن الأمة التى تنطلق من خلال تاريخها أيًا كان هذا التاريخ أقدر على الثبات والمواجهة.
فلا بد من استنفار كافة الإمكانات لانتزاع جذور التغريب والإفساد، والعمل على بناء جيل قادر على تحمل المسؤولية، وأن يكون عنده يقظة الانتماء، وهذا هو التحدى الأكبر، والعدة الحقيقية لمواجهة الاحتلال الصهيونى، لاستعادة الهوية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة