"إننى محظوظ أنه لم يكن شاعرا فهو الوحيد الذى كان يمكن له أن يشكل خطرا على إبداعى لأنه كان يغترف من نفس البئر وعاشر نفس الواقع بمخلوقاته وعلاقاته ومشاكله ومفارقاته وأساطيره لم أكن أخشى أمل دنقل فأمل لم يتجه للكتابة عن الريف أو عن قُرانا وحياتنا"
عبد الرحمن الأبنودى متحدثا عن صديقه الأديب الراحل يحيى الطاهر عبد الله. يدلنا الأبنودى على النبع الذى اغترف منه كلاهما انتاجه الأدبى، الصعيد بكل موروثه الشعبى وثقافته الخاصة وعاداته وتقاليده الصارمة، نبع لا ينضب ارتوى منه "يحيى" ففاض إبداعه الأدبى محملا بمذاق النبع الأم –الصعيد- الذى ظل مسرحا رئيسيا للكثير من أعماله جاعلا من قريته الكرنك نموذجا قدم من خلاله أوجاع الصعيد، وإرثه الثقافى، وعاداته الراسخة فى وجدان أبنائه .
تمثل المجموعة القصصية الأولى ليحيى الطاهر عبد الله "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا" الصادرة عام 1970 انعكاسا حقيقيا للبيئة التى سعى دوما للتعبير عنها والبوح بأسرارها للأدب العربى، بطريقته الخاصة وأسلوبه المميز، ذلك الأسلوب الذى يصعب الاعتياد عليه من أول قراءة فقد يبدو كالطرق غير الممهدة، فالحذر واجب فيها دائما، ربما تعتاد عليها بقراءة ثانية، لكنك –دون شك- تتوحد تماما مع شخصياتها فى القراءة الثالثة، وربما لا ترى أى صيغة أخرى تعبر عن تلك الشخصيات إلا تلك الطريقة التى رسم بها يحيى أبطال قصصه.
ربما يمكننى استعارة تعبير أسماء يحيى الطاهر عبد الله حينما وصفت طباع أبيها ومزاجه الخاص بأنه شخص "صعب المراس" فكذلك انطبعت شخصيته على أدبه فأصبح "صعب المراس" كصاحبه.
عندما جاء يحيى إلى الشمال، حمل الجنوب على كتفيه وسار به حتى وفاته، فكانت الكرنك مسقط رأسه بالأقصر مسرحا لأحداث معظم أعماله الأدبية وبطلا جغرافيا لأشهر رواياته "الطوق والأسورة" التى تحولت إلى فيلم سينمائى بعد وفاته.
فى مجموعته "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا" ظل قلم يحيى أسيرا لقريته الكرنك يتجول بين أسرارها وعادات أهلها، ولم يصرح لقلمه بالخروج إلا مرات قليلة ليتجول فى أرجاء القاهرة منشغلا بصغار الموظفين، معبرا عن هموم الوظيفة الميرى وما قد تخلقه من تشوهات فى نفوس البعض، ربما لذلك هرب يحيى فى بدايته من "تراب الميرى" لأن روحه لا تتلاءم معها، فجاءت صور الموظف فى مجموعته الأولى معبرة عن أولئك الذين قد لا تنطبق طباعهم مع روتين الوظيفة، ورتابة الحياة فى كنفها، أما المرة الثانية التى سمح فيها يحيى لقلمه بالانطلاق بعيدا عن الكرنك كانت رحلة أبعد من القاهرة كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينين، قصة اختتم بها المجموعة وحملت عنوانها ربما تأكيدا منه على مكانة القضية فى وجدانه وعقله .
أول قصص المجموعة " جبل الشاى الأخضر " قدم يحيى ملامح الصعيد القاسية. نفوذ الجد رأس العائلة، يليه سلطة الأب، وفتور حضور الأم أمام سطوتهما، والعنف الأسرى كأحد الملامح المميزة للمجتمع الصعيدى إلى جانب الموروث الشعبى الذى تمتزج فيه الحقيقة بالأسطورة، فيشكلا معا الملامح المميزة لشخصية الجنوبى، ومحاولات الأجيال القديمة غرس نفس القيم والمعتقدات فى الأجيال الجديدة التى ربما رفض بعضها الرضوخ لتلك الموروثات، فنجد فى "جبل الشاى الأخضر" استنكار الحفيد لرأى جده الذى يتهمه بأنه يبول على نفسه فى الفراش لولعه الشديد بالنار فيقول الحفيد :
"يصرخ باعتقاده القاطع بأننى أبول على نفسى أثناء نومى برغم أنى لم أعد طفلا .. ينسب ذلك لحبى للنار المشتعلة.. وولعى بالجمر الأحمر المتقد."
وظل يحيى يغترف من المورث الثقافى الشعبى كأحد السمات المميزة لأدبه فقدم أيضا أسطورة أخرى من الموروث الثقافى الشعبى فى قصته "طاحونة الشيخ موسى" حول خرافة الطاحونة التى لا تعمل إلا بدم طفل صغير، فصاغ فى إطارها قصة تاجر يسعى إلى شراء طاحونة استثمارا لأمواله فى مشروع لا يوجد مثله بالقرية، فما أن ينتهى من البناء حتى تهيج القرية رافضة عمل الطاحونة الجديدة إيمانا منهم أن الطاحونة لن تبدأ عملها إلا بدماء طفل صغير من أبنائهم فجاء على لسان عمدة القرية :
"يعنى ما إحنا من عمرنا بنشوف المكن مايدورش إلا إذا أكل عيل صغير.. مش كل المكن بيصرخ (توت..توت..) يعنى أنت هتغيره يا خواجة نظير.. وإلا ما هو إحنا بهايم.
فيلجأ صاحب الطاحونة إلى نفوذ الشيخ موسى على أهل القرية- ليبرز بذلك يحيى الدور الذى يلعبه رجال الدين المدعين فى ترسيخ الإرث الشعبى من الخرافة فى الصعيد- فقدم لم له الهدايا طالبا منه أن يُدير الطاحونة أول مرة بنفسه فتحل البركة على الطاحونة، وتعمل دون الحاجة إلى دم الطفل كما تخشى القرية.
رغم أن صاحب الطاحونة كان يعلم جيدا أنها خرافة، وأن الطاحونة ستعمل بدون دم وبدون معاونة الشيخ موسى، ولكنها الحيلة التى اضطر إليها حتى لا يخسر أمواله، واستغل الشيخ تلك الحادثة وأدار الطاحونة بنفسه ليثبت لأهل القرية أن الطاحونة دارت ببركته بدون الحاجة لدم طفل من أبنائهم، فيزداد نفوذه عليهم وتعلو مكانته فى قلوبهم.
أحد السمات الأخرى المميزة لمجموعة يحيى الأولى صورة الأم التى قدمها فى أكثر من قصة، ففقدانه لأمه فى طفولته جعل منها مصدر الحنان والحب الأثير ليحيى فى أعماله، حتى أمام توغل نفوذ الأب فى "جبل الشاى الأخضر" قدم يحيى صورة الأم المحبة الحانية التى تلملم دائما جراح أبنائها وتدافع عنهم حتى ولو على استحياء، لكنها تبقى الصوت المدافع الحانى دائما.
هكذا قدمها أيضا فى قصة الوارث ومحبوب الشمس وليل شتاء، صحيح أن تقديم الأم كمصدر للحنان والرعاية هى الصورة التقليدية لها فى الأدب بشكل عام، لكن يحيى أحاطها بقدرة على المقاومة والتأقلم معا تحت أى ظروف، ونسج من طبيعتها الطامحة دوما لحماية ورعاية أبنائها صورا واقعية للأم خاصة الصعيدية، فرغم الصلابة التى اكتسبتها نتيجة الطبيعة القاسية للبيئة التى نشأت بها إلا أنها ظلت فى أعمال يحيى نموذجا فريدا للحنان والحب والاحتواء، وفى نفس الوقت القدرة على التماسك ورعاية الجميع فى حال غياب الزوج.
فى قصة "الوارث" قدم يحيى نموذجا متعارف عليه كثيرا فى الجنوب. الأم التى تحتضن طفلها بعد موت زوجها فيصبح كل شئ لها فعلى لسان الابن يعكس "يحيى" خوف الأم عليه وتقديره لها:
"حين رأتنى أطلع النخلة ورأت بحزام قميصى مطواة جدى، خبطت على صدرها خبطتين خائفتين، ليتنى لم أحصل على المطواة من خالى- هكذا صرخت من أسفل- وحضنت أنا عود البكرية، نخلتنا بصدرى وكلتا ذراعى، كانت تخاف على من البكرية فهى عالية عالية .. وأمى ليس لها فى الدنيا غيرى .
وعندما انتقل يحيى إلى القاهرة فى مجموعته الأولى لم ينبهر بأضواء القاهرة التى يفقد معها الكثيرون من الوافدين إليها القدرة على الإبصار الدقيق، لكن تلك الأضواء على العكس تماما فعلت مع يحيى فقد أضاءت له عوالم القاهرة الخفية، فسلط أضواء قلمه على البسطاء الذين يحيون على هامش الحياة فى العاصمة، فقدم فى تلك المجموعة قصتى "35 البلتاجى 52 عبد الخالق ثروت" و "قابيل الساعة الثانية" تناول فى كليهما بؤس الوظيفة الحكومية، ربما انعكست فى القصتين جزءا من تجربة يحيى القصيرة فى تراب الميرى الذى نفضه عن روحه سريعا فى بداية حياته رافضا الدوران فى فلك الوظيفة كالثور المعمى كما جاء على لسان موظف فى قصته "قابيل الساعة الثانية":
"سبع سنوات دارها أخوك الثور المعمى حول الدرجة التاسعة مع الشغل والنفاذ وبعدها آمنت بحقيقة إن السجن تأديب وتعليم مسحت جوخ تلات سنوات فنلت الدرجة الثامنة وقفزت السابعة بعلاوة أفهم يا موظف يا غشيم لأهرس ودنك."
لكن على الرغم من الثراء الكبير التى اتسمت به مجموعة يحيى الأولى من صور حية للصعيد، وموروثه الثقافى إلا أن القالب اللغوى بدا مربكا فى بعض الأحيان، فلجوء يحيى إلى الفعل "كان" بشكل مُبالغ فيه فى بعض القصص بدا وكأن الكاتب يعانى فقرا لغويا ولا يمتلك مفردات أخرى يعبر بها عن أفكاره، فكرر استخدام فعل "كان" أكثر من ستين مرة فى قصة الجبل الأخضر، وزاد الأمر كثيرا فى "معطف من الجلد" ليتكرر أكثر من سبعين مرة، وكذلك فى "حصار طروادة".
ومن السمات الأخرى التى ميزت مجموعة "ثلاث شجرات كبيرة تثمر برتقالا" أسلوب تكرار الجملة ذاتها أكثر من مرة، فأوحى التكرار وكأن الشخصية تهذى لا تدرى ما عليها أن تفعله بعد أن طوقتها صعوبات الحياة. فنجح يحيى بهذا الأسلوب فى التعبير بشكل كبير عن حالة "قلة الحيلة" التى غلبت على كثير من شخصيات قصص المجموعة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة