"والسّماءُ والظّلُ السّاقط -من متون نزوة السّقوط -" قصة جديدة لـ أدهم العبودى

الخميس، 05 يناير 2017 08:00 م
"والسّماءُ والظّلُ السّاقط -من متون نزوة السّقوط -" قصة جديدة لـ أدهم العبودى الكاتب الروائى أدهم العبودى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

بالطبع كان لكلّ رجلٍ فى صحرائنا فكرة مغايرة عن النجاة، بدا اختُطفنا، أو تمّ تنويمنا، أو ربّما استفقنا، المعذرة، لم يكن أحدٌ يعلم على وجه التحديد، لذا، أُطلق الخيال، فتباينت التأويلات، بين مُضحكٍ، وأكثر إضحاكًا، لكنّى قلت:

- لعلّ ما عشناه فى الأصل من حياة مجرّد حلم لطيف..!

- ليس ألطف منك.

فضحكوا، وظللت وحدى –لعلّها العادة- أتأمّل فى ضياعنا، محاولًا وضع تصوّرات عن سبيلٍ للنجاة.

تحلّقنا النّار، افتعال الأمل أجدى، وثرثرنا كثيرًا، بل خدرنا نسيم الصّحراء غير المعهود، فبُحنا بالذى لا يُمكن البوح به على أرض الواقع، وراحت نزوات كلّ رجل تُكتشف من تلقاء نفسها، ففى الوقت الذى كنّا نتصيّد طيرًا نافقًا، أو زاحفًا جنح، من أجل أن نتمّم وسائل الحياة فى مثل هذه الصّحراء القاحلة، كان أحدُنا –مثلًا- يُعاشر آخر خلف تبّة رمل، كنّا نسمع الأصوات، وقدر ما استسلم بعضُنا لفكرة الفقد، فعاقر الواقع المُعاش، قدر ما حاولت أن أتمرّد، لإيجاد حلّ منطقي.

قُلت:

- فلنتحرّك إذًا.. لعلّنا نجد مخرجًا..!

- تحرّكنا كثيرًا.

- العجب أنّنا لم نتعارف إلّا فى هذه الصّحراء..!

- الأعجب أنّنا استيقظنا فى الصّحراء..!

- لكن لا يُمكننى تذكّر آخر حدث مرّ بي..!

- كلّنا كذلك.

- إن تلك إلّا حياة أخرى.

- أو موت حقيقي.

استوقفنى تعليقه، موت حقيقي..! ربّما، من يعرف كُنه الموت على وجه الدقّة؟ من مات وعاد يحكى لنا؟ على أن أصدّق أنّنا موتى لئلا أُجنّ..!

الجنون أزمة المصادفة...! عادة الجنون..!

رفعت رأسى إلى السّماء، عبست ملامحي، همهمت، وبشكل غير إرادى كانت أصابعى تتّجه إلى أعلى، وأنا أزوم، فقال لى أحدهم:

- هل ستتشاجر مع الرّب؟

- لعلّ شجارنا يُنهى المسألة..!

وبدا أنّى حقيقة أودّ التّشاجر مع الرّب، الإنسان الذى لا يفهم عاجز، وميزة الإنسان الأصيلة هو شعوره العميق بالكراهيّة تجاه العجز.

تركت مجلسهم، وحثثت الخطى صوب ربوة قريبة، تسلّقتها، وكان واحدٌ يضاجع آخر أسفلها، فلم ألتفت، تأمّلت السّماء المظلمة، كانت النّجوم لا تومض، وكان الأمل واهنًا وبدا لا يُرى فى غمرة التساؤلات، الصّحراء علامة استفهام، والسّماء مجرّد نقطة سرمدية فى فضاء الذّهن.

                                                  *  *  *

لكن هل كنّا نجهل أسماءنا حقًّا؟ بلا جدوى كنّا نحاول استنطاق الذّاكرة، وفكّرنا أنّه ينبغى أن نُعيد تدوير هوياتنا، بما يتناسب وعُزلة المكان، ومعطيات الوضع الرّاهن، فأُطلق على أحدنا مسمّى "رمل"، وآخر "فضاء"، وآخر "سماء"، وأطلقوا على اسم "شمس"، لما فى نفسى من حدّة ومن تمرّد ومن عنف، وبالطبع ما كنّا أدركنا هذه المسميّات، لولا أنّ الذى نفانا فى هذا المكان ترك فى أذهاننا ومضات عن معانى بعض الأشياء، أقلّه مفردات الصّحراء التى وجب أن نتقبّلها كموطن إجبارى.

                                   *  *  *

فجأة هتف "سماء":

- "شمس"..! أين النّساء يا "شمس"؟ جسمى تأكله الشّهوة إليهنّ.

- فى ذاكرتى خيالات عن نساء قُدامى.. إنّما استعضنا ببعضنا عن النّساء.

قال "فضاء":

- من عجب أن تكون هذه سنّة الصّحراء...!

فقلت:

- بل من عجب أن تصبح هذه عادة مستحبّة...!

                                    *  *  *

آمنا أنّ الإنسان يصنع مأواه، فبعد أيّام توالت، لم يكن ثمّة مفرّ من تشكيل المكان وفق إحساسنا بأنّنا علقنا هنا، ولا نجاة من الصّحراء، انصرف بعضُنا يبحث عن أخشاب متفرّقة فى الأنحاء، وذهب بعضٌ آخر يبحث عن بئر ماء، وآخر عن مخابئ وجحور الزّواحف، وهكذا، أنشأنا كوخًا، وزرعنا أشجارًا، وشيئًا فشيئًا بدت تستطيب الحياة، لولا أنّى وجدت صحيفة مطويّة بين حشاش الرّمل ذات يوم، صحيفة قديمة، بالية، لكنّى بوعى غريب استطعت أن أفسّر ما خطّ فيها:

                                   *  *  *

<المُبتدى>

(علَى عهدِك يا أولَ الإنسِ، وعلَى عهدِى أكون).

(قبل الإنسان، كان تقديسٌ وكان نور).

(المَجدُ للإنسانٍ سيّدُ الأرض، أرض أولى وأرض آخرة، ثائبٌ يومَ يَدين، إيّاك نجيء إيّاك نستبين، رحماك بنا رّبًا رحماك بنا مَكين، يومَ نُفِخنَا ويومَ أُنزِلنا ويومَ لم يكنْ لنَا إيّاك إذ يَحين، ولا كنّا قيامًا ولا كنّا قعودًا ولا كنّا إلاّك مستبصرين، فانظرنا).

                                   *  *  *

لم أفهم كيف يُمكن أن تتكشّف الأشياء؟ وإلام ترمى هذه الصحيفة؟ هل يُمكن أن يكون معناها مجرّد لمحة من غيب أم شذرة من ماض؟

                                    *  *  *

ونُدهت، لا أعرف ما فيّ..! لكنّى استمسكت بذهنى الهواجس، ورُحت أمضى خلف تصوّرات بدت للجميع جزافية، عن أرض وسماء وبشر وحياة وموت، مضيت خلف تهيؤاتى المزعومة بعزم غير مفهوم، بل ملتبس عليه، وإن اكتشفت أنّه مغلوط، إنّما شيء ما ظلّ ينازعني، ورحت –فى صحوة أمل غير مسبوقة- أطارد ظلال الأشياء، وأستقصي، بل وكان ظلّى نفسه يسرح بعيدًا عنّي، فأتتبّعه، وكثيرًا ما فقدته، ومن خلف ربوة، بدت تلوح امرأة، لم أستوضح ملامحها، لكنّها هيكل امرأة، هرولت إليها، وصعدت الرّبوة، امرأة، كانت تستنزف طاقتى فى التخيّل، امرأة، من ورائها أصعد الرّبوة، ثم اختفت.

فألقيت بنفسى من فوق الرّبوة.

                                   *  *  *

- أين ذهب هذا المجنون؟

- رأيته يُلقى بنفسه من على الرّبوة..!

- لكنّه اختفى..!

- أو سقط من على هذا الكوكب...!

- تلك آخرة التّطاول على الرّب.

- وعاقبة الشّجار مع السّماء.

                                   *  *  *

ولمّا عُدت، عُدت بلا ظلّ، لم أشأ أن أروى لهم أنّى سقطت فعلًا من فوق الكوكب، ووجدتنى أدور بدوران الأرض، وكِدت أضيع فى غياهب الفضاء لولا أنّى وهبت ظلّى قربانًا كيما أنجو، لم أشأ أن أخبرهم أنّى قابلت الرّب ولم يعاتبنى، بل لم يمنحنى حتّى أيّة إجابات، فقط تركنى أنجو، أنجو من السّماء، واستحوذ على ظلّى.

لم يروا ظلّى، فاندهشوا، لم أقل لهم قط، طيلة حياتنا فى هذه الصّحراء، أنّنا هُنا بُعثنا من جديد، وحتّى اكتمال المشيئة.










مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة