شعر إسماعيل باشا أن عمه الوالى سعيد يرقد رقدته الأخيرة فى الإسكندرية، وأن موته بات قريبا، فانتظر خبر الموت وهو فى القاهرة كى يأخذ مكان العم والجد محمد على باشا فى حكم مصر، وحسب كتاب «تاريخ مصر فى عهد الخديو إسماعيل باشا» تأليف «إلياس الأيوبى»، الصادر عن «دار المعارف - القاهرة»، فإن العادة جرت على أن ينعم الوالى الجديد بلقب «بك» إلى من يأتى إليه بخبر اعتلائه العرش، وإذا كان حامل هذا الخبر من «البكوات» فينعم عليه الوالى بلقب «باشا»، وعلى هذا الأساس شهدت قصة موت سعيد، وصعود إسماعيل إلى الحكم تدبيرا ومؤامرة وكان طرفها «بسى بك» مدير المخابرات التلغرافية.
وفقاً لما يذكره «الأيوبى»، فإن «بسى بك»لم يغادر عمله ثمانى وأربعين ساعة ليحمل خبر وفاة «سعيد باشا» الذى سيكون بشرى لـ«إسماعيل باشا» كى يصعد إلى سدة حكم مصر، غير أن النوم غلبه بعد يقظته الكاملة طوال الـ48 ساعة، فاستدعى أحد صغار موظفى مصلحته، وأمره بالجلوس إلى جانب عدة التلغراف حتى ينام قليلاً، وشدد عليه أن يقوم بإيقاظه فور تلقيه إشارة من الإسكندرية تفيد بانتقال سعيد باشا إلى «دار البقاء»، ووعده بجائزة قدرها خمسمائة فرنك مقابل ذلك، فأظهر الموظف الصغير انصياعه إلى أوامر رئيسه، وذهب «بسى بك» إلى النوم بملابس العمل وهو مطمئن إلى مخططه.
كان الموظف يعلم تماماً مقدار الجائزة التى ستعود على من يحمل الخبر الذى ينتظره «إسماعيل باشا»، ولهذا دبر أمره وعقد عزمه على أن يفوز هو بها، وطبقا لـ«الأيوبى»، فإنه فى منتصف الليل بين اليوم السابع عشر والثامن عشر «مثل هذا اليوم» من شهر يناير عام 1863 «وردت من الإسكندرية الإشارة البرقية المنتظرة حاملة خبر وفاة «سعيد باشا» فحملها الموظف الصغير مسرعا إلى سراى الأمير «إسماعيل» وطلب المثول بين يديه، وكان إسماعيل جالساً فى قاعة استقباله، يحيط به رجاله وتسامره هواجسه، فلما رفع إليه طلب ذلك الموظف أمر بإدخاله حالا، فدخل وأحدقت به أنظار الجميع».
يصف «الأيوبى» المشهد فى السراى فور دخول الموظف: «جثا الرجل أمام إسماعيل باشا، وسلمه الإشارة البرقية الواردة، فقرأها «إسماعيل»، وما إن اطلع على ما فيها، إلا ونهض والفرح منتشر على محياه، فوقعت الإشارة من يده، وشكر الله بصوت عالٍ على ما أنعم به عليه من رفعة إلى سدة مصر السنية، ثم ترحم على عمه «سعيد باشا» ترحما طويلاً، فشاركه رجاله المحيطون به فى فرحه، وتصاعدت دعواتهم له بطول البقاء ودوام العز وأخذوا يهنئونه، ويهنئ بعضهم بعضا».
انتظر «الموظف الصغير» النعمة التى سيحصل عليها، وحسب «الأيوبى»: «نظر إسماعيل إلى الموظف الجاثى أمامه والذى كان قد التقط الإشارة البرقية حالما وقعت من يد مولاه، ووضعها فى جيبه» وتبسم وقال: «انهض يا بك»، وبعد أن حباه نفحة من المال أذن له بالانصراف».
لم يكتف الموظف الصغير بما حصل عليه من لقب «بك» بالإضافة إلى المال، فعاد مسرعاً إلى مصلحة التلغرافات ليحصل أيضا على جائزة الخمسمائة فرنك الموعود بها من «بسى بك»، ودخل عليه وأيقظه وسلمه البرقية، فتناولها «بسى بك» وقرأها، ثم فتح كيسه بسرعة وأعطى الموظف مبلغ الخمسمائة فرنك الذى وعده به، وأسرع بالبرقية إلى سراى «إسماعيل باشا» متأكداً من أنه سيصبح باشا، ويستكمل «الأيوبى» روايته قائلاً: «لما دخل على الأمير، وعرض عليه الإشارة قابله إسماعيل بفتور» وقال: «لقد أصبح لدينا خبرا قديما»، فأدرك الرجل أن الموظف خانه وسبقه إلى استجلاء أنوار الشمس المشرقة ونعمها ثم ضحك عليه واستخلص منه خمسمائة فرنك، فاستشاط غضبا ونقمة، وعاد إلى مصلحته، واستدعى ذلك المكير الخائن، واندلث عليه، فأوقفه الموظف عند حده قائلا: «صه، فإنى أصبحت بيكا مثلك».
يعلق «الأيوبى»: «هكذا أضاع «بسى بك» ثمرة سهره ثمانى وأربعين ساعة، بعدم تجلده على الاستمرار ساهرا بضع سويعات أخرى»، ويضيف: «ما بزغ نهار الثامن عشر من شهر يناير «مثل هذا اليوم» إلا وورد إلى العاصمة «القاهرة» آخر من كان قد بقى حول سرير الوالى المحتضر فى الإسكندرية، وفارقه حالما فارقته الروح، وأسرع هو أيضا إلى سراى الوالى الجديد ليقدم له فروض عبوديته ويتلمس من محظوظيته نعمته، ولم يبق بجانب جثة من كانت كلمته بالأمس حياة وموتا إلا فرنساوى يقال له: المسيو برافيه، كان صديق المتوفى الحميم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة