نزل محمد فايق مسؤول ملف أفريقيا برئاسة الجمهورية فى المطار بالعاصمة الكونغو لية «ليوبولدفيل»، فلم يجد مسؤولا واحدا يسأل عن جوازات السفر أو إجراءات الجمارك أو غيرها من الإجراءات التى يقابلها أى مسافر عند الوصول إلى مطار من المطارات الدولية، ويضيف فى كتابه «عبدالناصر والثورة الأفريقية» عن «دار الوحدة - بيروت»: «بمجرد أن وطأت أقدامنا المطار فى مثل هذا اليوم «27 أغسطس 1960» كان هناك حالة من الفوضى لدرجة أن قائد الطائرة وطاقمها اضطروا للبقاء فى المطار لحراسة الطائرة لحين انتهاء مأموريتنا ونقلع عائدين».
سافر «فايق» لمقابلة الزعيم الكونغولى «لومومبا» بتكليف من جمال عبدالناصر وتقديم رسالة مهمة له، تتعلق بقضيتين هما، ضرورة تراجع لومومبا عن مطلبه بإرسال قوات عسكرية أفريقية إلى الكونغو خارج نطاق الأمم المتحدة، لأن ذلك سيعطى فرصة لعودة قوات الاحتلال البلجيكى، والتدخل السافر من جانب أمريكا، وإلغاء فكرة عقد مؤتمر قمة أفريقى، الذى دعا إليه لومومبا فى «ليوبولدفيل»، لأنه سيسفر عن انقسامات خطيرة بين الأفريقيين، وقد يشل حركته السياسة، وبدلا من الاعتماد على مؤتمر القمة يستطيع الاعتماد فى حركته السياسية على مجموعة من الدول الأفريقية الثورية مثل غانا ومالى وغينيا ومصر.
كان لومومبا يقود نضاله الوطنى فى بلاده لاستقلالها عن الاستعمار البلجيكى، الذى ارتكب جرائم يشير فايق إلى جانب منها: «فى يناير سنة 1960 وعندما تقرر استقلال الكونغو لم يكن هناك أفريقى واحد من الوطنيين يشغل منصبا فى الحكومة، وكان عدد الوطنيين فى الجهاز الإدارى كله 640 أفريقيا جميعهم فى الوظائف الدنيا، ولم يكن هناك أعداد تذكر من الأفريقيين خريجى الجامعات، ولم يكن هناك وطنى واحد برتبة ضابط فى الجيش الكونغولى، حيث اقتصرت هذه المهمة على البلجيك وحدهم».
مضى لومومبا «مواليد 2 يوليو 1925» فى نضاله لتغيير هذه المعادلة، وتعرف على «فايق» عام 1958 فى العاصمة الغانية أكرا أثناء انعقاد مؤتمر الشعوب الأفريقية، وكانت هى المرة الأولى التى يخرج فيها ليلتقى زعماء وسياسيين أفارقة حضروا المؤتمر، وحسب فايق: «نشأت بيننا منذ ذلك الوقت علاقة قوية أساسها انبهار لومومبا الشديد بما حققه عبدالناصر لتخليص بلاده من الاستعمار الإنجليزى والذى يعنى الأمل لبلد غنى مثل الكونغو تمتلك الشركات الأوروبية كل شىء فيها، وكنت أراسله على عنوان صندوق بريد فى«برازافيل»عاصمة الكونغو الخاضعة للاستعمار الفرنسى، ويبدو أنه اختار هذا العنوان لأن السلطات البلجيكية لم تكن لتسمح بمثل هذه الاتصالات أو لأنه أراد أن يخفى هذه الصلة».
يعدد فايق أسباب مساندة مصر له ومنها: «أهمية الموقع الجغرافى للكونغو بالنسبة لمصر، فتأمين منابع النيل هدف من أهداف الاستراتيجية المصرية، ومتاخمة الكونغو لجنوب السودان تجعل له أهمية خاصة، فمشكلة الجنوب فى السودان والمحاولات المستمرة للانفصال كان يغذيها الوجود الاستعمارى فى المناطق المحيطة به، وكان حل هذه المشكلة مرهونا بوقف النشاط المعادى للسودان فى الدول المتاخمة».
لأجل هذا ساندت مصر «لومومبا» منذ تأسيسه لحزب الحركة الوطنية الكونغولية، وفوزه بانتخابات عام 1960 وأصبح رئيسا للوزراء، لكن بلجيكا والمخابرات الأمريكية صمموا على إجهاض تجربته، ويتذكر فايق وقائع اجتماعهما فور وصوله: «استقبلنى فى مكتبه بمبنى رئاسة الوزراء بعد فترة وجيزة من الوصول، وكان يصحبنى عبدالمجيد فريد، وأبلغت لومومبا برسالة جمال عبدالناصر، ثم بحثت معه النقاط التى كلفت بها، وبدت عليه ملامح السعادة والارتياح لاهتمام عبدالناصر بقضيته وتأييده له، وتكلم كثيرا عن الوحدة الأفريقية والمشاكل التى تعانى منها الكونغو، فشرح حالة الخراب التى ترك فيها البلجيك خزينة الدولة وعمليات النهب، التى تمت فى الشهور التى سبقت الاستقلال».
يكشف «فايق»، أن لومومبا طلب منه عشرين ألف دولار بصفة عاجلة كسلفة لحزبه، حيث كانت الظروف تحتاج إلى تحريك بعض أنصاره إلى مناطق معينة لمواجهة التكتلات المضادة، وأرسل عبدالناصر بعد أيام هذا المبلغ مع السفير مراد غالب، أول سفير لمصر فى الكونغو، وطلب أن تمده مصر ببعض الخبراء والفنيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة