من الضرورى على رجال الدولة المعنيين بالسياسة الاقتصادية وضمان تحقيق العدالة الاجتماعية، وهم بصدد قياس كيفية توزيع منافع النفقات العامة التى تقدمها الحكومة فى برنامجها الاقتصادى للمواطنين من أفراد أو فئات المجتمع بكل شرائحه، أن تفرق بين نوعين من النفقات العامة وهما النفقات العامة التى تعطى منافع (سلع أو خدمات) غير قابلة للانقسام، أى التى تعطى منافع يستفيد منها عدد كبير من المواطنين معاً، دون أن تعنى فرداً بذاته، والنفقات العامة التى تعطى منافع (سلع أو خدمات) قابلة للانقسام، أى التى تعطى منافع يستفيد منها مجموعة أو فرداً بعينه، دون أن تفيد مجموعة أو فردا آخر، ولا شك فى صعوبة قياس كيفية توزيع الدخل القومى للنوع الأول من منافع النفقات العامة غير القابلة للانقسام، ولكنى سوف أوجه حديثى هنا للحكومة حتى تتضح لها الصورة ونجتهد جميعاً فى محاولة لتحقيق التوزيع العادل للناتج القومى ولكى يصل الحق إلى مستحقيه.
ونقصد أولهما: بالنفقات العامة التى تعطى منافع غير قابلة للتقسيم بتلك النفقات التى تعطى منافع من سلع وخدمات تفيد المجتمع كله لا أفرادا معينين بعينهم، ومثل ذلك نفقات "الدفاع الوطنى" ونفقات "التمثيل الخارجى" بكل أنواعه واختصاصاته، ونفقات "الأمن الداخلى" ونفقات "الطرق والكبارى والنقل العام"، فمثل هذا النوع من النفقات العامة سابقة الذكر، تؤدى إلى زيادة مستوى الرفاهية الاقتصادية للمجتمع فى مجمله ولا تقتصر على فئة أو فرد دون غيرهم، وفى الواقع أننا لا يمكن (حتى إن أردنا) أن نوزع منافع تلك النفقات العامة غير القابلة للانقسام بين أفراد المجتمع (أو بين مختلف الفئات الاجتماعية المكونة له - إلا فى حالات نادرة جداً حسب الدخل وحسب نوع السلع والخدمات العامة التى يستخدمها كل صاحب دخل - وإن كان الأمر سوف يظل صعباً للغاية) إلا بالاعتماد على أسس تحكمية (مثل عدد المركبات وطول الطرق وامتداد النهر واتساع انتشار الشرطة... إلخ) ولذلك يمكن القول قاطعاً بعدم وجود طريقة علمية إحصائية سليمة لربط نسبة هذه النفقات إلى عدد المستفيدين منها وشرائحهم المجتمعة بالضبط.
ومع ذلك يمكن فيما يخص نسبة منافع النفقات العامة إلى المستفيدين منها، أن نفرق بين حلين؛ أولهما أن نقسم منافع النفقات العامة بين المواطنين والذى يمكن أن يتم بأكثر من طريقة، وهى أن نخص فى المطلق كل من المواطنين من أفراد المجتمع بقيمة متساوية للتبسيط (وإن كان هذا تقسيم تقدير غير دقيق وذلك لأن الأغنياء مثلا هم الأكثر استفادة من استخدام الطرق لكثرة استعمالهم للمركبات الخاصة)، أو من ناحية أخرى تقسيم المنافع العامة كما ذكرت من قبل بالتناسب مع دخول أفراد المجتمع، وذلك نظراً لأنه كلما ارتفع دخل الفرد، كلما ارتفع نصيبه من الخدمات والسلع العامة ومن الرفاهية الجماعية (ولكن من أنواع معينة من السلع والخدمات العامة الأكثر رفاهية)، وإن كان هذا المعيار أيضاً غير دقيق، لعدم تطابق النمط المعيشى لكل فرد أو فئة حتى وإن تساوت دخولهم، أو أخيرا تقسيم المنافع العامة بالتناسب مع مبلغ الضريبة الذى يدفعها كل فرد أو فئة فى المجتمع، وإن كانت هذه الطريقة أيضاً مضللة لحد ما، لوجود التهرب الضريبى والإعفاءات الضريبية لعدة شرائح ومشروعات واتساع حجم الاقتصاد غير المنظور فى مصر بشكل فج، والذى لا يدفع ضرائب من الأساس، ويزاحم فى الاستفادة من السلع والخدمات العامة.
وأوضح أن هذه الطريقة تبعد عن الواقع والحقيقة الشىء الكثير، وتهدف فى الأساس إلى إقرار مبدأ استبعاد الآثار التوزيعية للنفقات غير القابلة للانقسام على أفراد المجتمع.
وثانيهما؛ أن نستبعد هذه الجزء من المنافع غير القابلة للانقسام من السلع والخدمات العامة (من مجمل الإنفاق العام للدولة والذى يمثل قدرا كبيرا جدا فى الموازنة العامة للدولة) من قياس إعادة توزيع الدخل القومى (من الأساس)، وذلك نظراً لصعوبة نسبتها وقياس المستفيدين منها بدقة وإنصاف للفرد والمجتمع والدولة، وفى هذه الحالة ننتهى إلى أن عملية إعادة توزيع الدخل القومى فى مصر يجب عملا أن تقتصر على قياس "إعادة التوزيع الجزئى" لا "إعادة التوزيع الكلى"، أى بمعنى آخر أن يقتصر قياس إعادة توزيع الدخل القومى على المنافع من السلع والخدمات العامة القابلة للانقسام دون غيرها من السلع والخدمات العامة غير القابلة للانقسام، حتى إن كان هذا الحل ناقص البيان ومهدر لحقوق البعض.
وأنا ممن يفضلون هذا الحل فى قضية إعادة توزيع الدخل القومى (أى الاعتماد على نسبة منافع النفقات العامة القابلة للانقسام وحدها دون النظر إلى قياس نصيب الفرد من المنافع غير القابلة للانقسام لتبسيط سبل قياس المستفيدين منها؛ كأساس لدراسة إعادة توزيع الدخل القومى فى مصر)، حتى لا نكلف الدولة فقط طاقتها، وحتى لا نعطى بعض الأغنياء حقا ليس لهم، أو نأخذ من الفقراء ما هو حق له، فالتوجه الأرشد هو أن تركز الحكومة فى توسيع قاعدة النفقات العامة القابلة للانقسام على أفراد المجتمع، خاصة محدودى الدخل والفقراء إن كانت حقا تهدف إلى تحقيق قدر من العدالة الاجتماعية .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة