فإذا قرأت قطعة من الشعر فى الغزل للمتنبى أو لشوقى، أو فى الوصف أو فى النقد لأبى العلاء، قلت إن هذه القطعة من الأدب الرفيع المستوى. كذلك إذا وقفت على مقالة من نثر لأحمد لطفى السيد أو قصة لطه حسين أو للعقاد فى غير موضع العلوم الدراسية البحتة (كالفلسفة والفقه)، رُوعى فى كتاباتها الفصاحة والبلاغة وقواعد اللغة العربية الصحيحة المعتادة منهم، التى يجب أن تدرس لأولادنا الذين فقدوا اللغة العربية "لغة القرآن" وفقدوا معها الهويّة أيضاً. لقلت وقتها إنها قطعة من الأدب. فإذا وقع لك كتاب فى التاريخ أو فى الارشاد مهما يكن مساسه باللاهوت، مثل كتب المازنى أو مصطفى لطفى المنفلوطي، فذلك من الأدب الخالص أيضاً.
كانت هذه المقدمة واجبة لكى نفهم أنه حينما يتعلم المرء شيئا من فروع العلم كالطب مثلاً فيصير طبيباً، وشيئا من علوم الهندسة أو الحقوق فيصير بذلك مهندساً أو مشرّعاً. نعرف ذلك ولكن لا نعرف بالضبط بم يصير المرء أديباً، إلا أنى أعرف أن الأديب يجب عليه أن يكون قد قرأ كثيراً مما كتب فى التاريخ والنقد والشعر، وما وقع الاجماع على بلاغته فى كتب السيرة أو القصص، وما وضعه الكتاب والشعراء السالفون والمعاصرون، وبلغ الشهرة العامة وأطرافا من نكات محاورات الأدباء الأقدمين، وأذكر منهم أمثال نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم واحسان عبد القدوس وأنيس منصور ويوسف ادريس ويوسف السباعى (كتاب الزمن الجميل) رحمة الله عليهم جميعاً، والباقية القليلة من الكتاب المعاصرين ذوى الصفات سابقة الذكر، وإن ندر وجودهم هذه الأيام، وحل محلهم أدباء السوق الذين يؤلفون ما يؤلفونه طبقاً لقواعد العرض والطلب والتوزيع والربح والخسارة.
وحيث إنه من اجتمع له بذلك الصفات الحميدة للرواد الأوائل، قلة أو أكثر، فهو أديب مع مراعاة البيئة التى هو فيها أو التى سمته أديباً، ولو كان هذا الأديب، أو من يعرف نفسه على إنه " أديب"، لا يعرف نظام المجموعة الشمسية من الفلك ولا قاعدة عكس مربع البعد فى علم الطبيعة، ولا مساحات المستويات الهندسية العادية، ولا شيئاً من أوليات العلوم القديمة والحديثة !، فهو ليس "بأديب" كما يصور هو أو غيره لنا هذه الأيام، ويملئ الورق بحبر أغلى من قيمة ما يكتبه، ويشغل حيزاً من الجرائد ومطبوعات دور النشر، أولى أن يأخذها الأساتذة أمثال احمد عبد المعطى حجازى أو محمد سلماوى أو يوسف زيدان، أو يوسف القعيد، أو جمال الغيطانى وآخرين من الأدباء المحترمين المعاصرين.
نعم فقط الذى قرأ بإمعان ما نسميه عادة كتب الأدب واستظهر بعض القصائد، واستطاع أن يقول عن فكرة بعينها لأحد الكتاب إنها فكرة ساقطة أو صائبة، أو عن تركيب لغوى أنه تركيب ركيك أو سليم. الخ) هذا هو "الأديب" عن حق.
لذلك وللأسف الشديد نجد المزاحمة على لقب "اديب" هذه الايام اكثر المزاحمة على أى من الألقاب العلمية الأخرى كالطبيب والمهندس والمحامي. الخ).
بل تكاد تكون المزاحمة عليه عامة حتى بين العوام، لأنه ليس للأديب شهادة بعينها ولا كمية معينة من الكتب يقرأها (مثل أنيس منصور الذى قرأ كل كتب مكتبة المنصورة وهو لم يتخرج بعد من المدرسة الثانوية)، ولا شرط ظاهر لحسن البيان غير مراعاة قواعد النحو البسيطة (مثل عميد الأدب العربى د. طه حسين) بل مع عدم مراعاة أغلب القواعد فى كثير من الأحيان هذه الأيام.
وعلى هذا ليس لجماعة الأدباء حدود خاصة تحميهم، بل قد يكون الطبيب أديباً (مثل د. يوسف ادريس) أو يكون المهندس أديباً، أو الفيلسوف أديباً (مثل العقاد وأنيس منصور) وغيرهم من ذوى المهن الأخرى.
لا يوجد عندى مانع فى هذا، ولكن شريطة أن يتمتع هؤلاء الكتاب بالصفات سابقة الذكر، وأن يلموا إلماما واسعاً بأوليات العلوم والمعرفة حتى يصبحوا أدباء إن أرادوا ويستحقوا منا لقب "أديب" مثل الرواد الأوائل. رحم الله أدباءنا العمالقة وبارك لنا فيما تبقى ممن يحذون حذو السلف الصالح منهم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة