قلنا فى الأسبوع الماضى الانتقال من ثقافة القول إلى العمل، حتى لا يكون القول مخالفا للعمل، بيد أن هذا لا يعنى أن ثقافة المقال والقول تحتاج إلى تأسيس وفطنة وذكاء، بحيث يخرج القول واضحا كرسالة لمن توجه إليه، فالرئيس أو القائد أو الزعيم حين يقول فإن قوله فعل وقوله خطاب لابد وأن يكون واضحا، وقد قال الله سبحانه وتعالى عن داوود «وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب»، فالحكمة تعنى وضع الشىء فى موضعه، وفصل الخطاب أى القول الواضح البين الذى يقطع الحجة ويبينها فلا يكون لمحتج بعد ذلك حجة أو لقائل آخر مقالا، أى أن الحجة والمنطق الواضح والبيان الفصيح الفاصل هو الذى يعلو على غيره من الحجج أو الأقوال، هنا دعنا نقول «تدافع الخطابات والأقوال»، ففصل الخطاب هو الذى ينفى غيره. وكان العرب يرسلون أبناءهم إلى البادية لتعلم الفصاحة من أهلها قبل أن تدهمها العجمة واختلاط اللسان، وكانت اللهجات متباينة فى مستوى رقيها واقترابها من العقل العربى، ومن هنا كانت لهجة قريش هى اللهجة التى نزل بها القرآن الكريم، وكانت معجزة القرآن الأساسية فى تحدى العرب ذوى اللسان الواضح فى أن يأتوا بسورة من القرآن، أو أن يأتوا بآية من القرآن الكريم.
وكانت فصاحة النبى صلى الله عليه وسلم حجة على العرب أيضا، فقد جاءهم بألوان جديدة من الخطابات والأقوال لم يكونوا يعرفونها من قبل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين»، وقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الأعمال بالنيات»، وقوله «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، وغيره من الأحاديث، وأصبح البيان والخطاب والفصاحة عنوانا للعقل العربى.
وكان خلفاء الدول الإسلامية الأمويون والعباسيون يحفظون لهجات العرب ومذاهبهم فى الكلام والبيان، فإذا جاءه أحد من قبيلة عربية لديها لهجة شاذة أو غريبة فتكلم بها عنده، أجابه بنفس لهجته، وكتب علماء العربية والمنطق كتبا كثيرة لإصلاح البيان والمنطق ومنها «إصلاح المنطق» لابن السكيت، فالمنطق الحسن والبيان الواضح هو إحدى أهم وسائل الإقناع للناس وللجمهور، ويكسب صاحبه حبا وقبولا وشرعية لدى جمهوره.
والبلاغة العربية هى بلوغ المتكلم مراده وتوصيل رسالته للمستمع بلا مشقة ولا صعوبة، تجعله حائرا يضرب الأخماس والأسداس فى محاولة كشف اللثام عن المعانى التى يخبؤها الخطاب، وقد طالعت كتب جمهرة العرب فى الأنساب وفى الرسائل وفى الشعر، وقرأت معلقاتهم، واستمتعت بها جميعا، وكانت تلك الكتب شعرا ونثرا ونسبا تعبر عن عقل عربى يعبر عن البيان والتبيين والفصاحة وحسن الخطاب.
ونحن فى كلية الاقتصاد طالعت رسالة الدكتوراه لمحمد السيد سليم عن الخطاب الناصرى وتحليله، فالخطاب أحد الموضوعات الرئيسية للعلوم الاجتماعية والسياسية، والخطاب جسر القادة والزعماء إلى قلوب جماهيرهم، وكما يقول العرب فإن القلوب أوعية والألسن مغارفها، وقد قال عمر بن الخطاب «تفقهوا قبل أن تسودوا»، أى تعلموا قبل أن تصلوا إلى مواقع السلطة والمسؤولية، لأنها تشغلكم عن العلم فلا تجدون وقتا للتعلم بعد ذلك.
إصلاح الخطاب أمر ضرورى لنا جميعا، لأنه أحد أهم سبل تحقيق النهضة، فلو حسنت أدوات تخاطبنا وتفكيرنا ونقاشنا، لاستقام لنا تفكيرنا وحججنا، وحسنت عقولنا وتنظفت، الفوضى فى الخطاب والعودة إلى برج بابل، وبلبلة اللسان هى عنوان على مشكلة عميقة تحتاج لحل قبل أن نشرع سفننا للإبحار نحو النهوض.
عدد الردود 0
بواسطة:
.
مجبر اخاك لا بطل