الأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة
الكراكيب فى نظرى نوعان، كراكيب مادية وهى أشياء قديمة من أثاث البيت غالبا ومن مقتنياتنا ومقتنيات أجدادنا، ولا نستخدمها، ونحتفظ بها وننساها غالبا لكنها تحتل حيزا ليس كبيرا من بيوتنا؛ وأما النوع الثانى من الكراكيب وهو الأخطر فهو كراكيب الأفكار.
يحتفظ الناس بالكراكيب المادية على الأسطح وفى البيوت وينسون أنهم يتوارثونها ويضيفون إليها دون حاجة إليها؛ فلماذا لا تحدد البلدية يومين فى السنة يلقى الناس بكراكيبهم وما لا يحتاجونه فى الشوارع ويمر الناس يلتقط كل منهم ما يحتاجه مجانا فى تكافل جميل كما يحدث فى ألمانيا.
لا يقتصر أمر الكراكيب على الأشياء المادية فقط كما ذكرتُ آنفا بل هناك كراكيب معنوية لا نحاول التخلص منها وهى أشد خطرا من المادية؛ لأن بائع الروبابيكا قد يمر ونتخلص من بعضها؛ لكن ما نراه فى مجتمعنا يؤكد أن أفكارا كثيرة فى حاجة للتخلص منها ،فهناك شباب يحمل أمواسا يمزق بها كراسى القطارات والأتوبيسات لأنها قطاع عام؛ وكأن القطاع العام ينتمى لكوكب آخر، وإذا ما رأيت الشارع فالجميع يشترك فى عدم نظافته وكأننا لا نسير فيه ، ولكن الذهن يفصل بينه والبيت ، بل يفصل بين السُّلم والبيت ، فكم من بيوت بها شقق تُقدر بالملايين وفى داخلها جمال الديكورات لكنها لا تنظف السلالم والَمْنور يتحول إلى مكان تجميع القمامة، بل يغيطنى أن عمارة أطباء كَشْفُ الواحد منهم بأكثر من خمسمائة جنيه ونور السُّلم مُطفأ لأن اللمبة محروقة منذ أكثر من عام وثمنها لن يصل إلى عشرين جنيها، ويتدحرج المرضى فى ظلام دامس للوصول للعيادات التى يدفعون تحويشة العمر طلبا للشفاء بعد أن أعوزهم التأمين الصحى عن الوصول للشفاء؛ كل ذلك أراه أكوام كراكيب فى حاجة للرمي، وقد التقيت صدفة بأحد زملاء الدراسة فى فترة الثانوية كان متوسط التحصيل لكنه كان هادئا يميل إلى الوحدة كثيرا ، وكان مسالما، وانقطعت صلتى به بعد التحاقه بإحدى الكليات فى أسيوط، لكننى رأيته الأسبوع الماضى فى مجلس عزاء، تقدّم منى وسلّم عليّ، وعرّفنى باسمه فتذكرته ، ثم دار حوار عرفت منه أنه بعد تخرجه من الجامعة سُجِن سبع سنوات فى أحداث اغتيال السادات ، وروى لى أنه خرج بعد المراجعات ، وعندما سألته عن أفكاره فوجئت أنها لم تتغير على الإطلاق ، وأن جواز قتل الأبرياء للوصول للحاكم وزعزعة الحكم جائزة شرعا -على حد قوله- واستشهد بأقاويل قيلت فى القرن العاشر الهجرى يراها مقدسة، وحاولت أن أزحزح هذه الكراكيب فى عقله، وأن أشرح له أن الآيات الكريمات واضحة فى تحريم قتل النفس البريئة، لكنه يترك الآية القرآنية ويقول "فلان قال"، هؤلاء فى حاجة لمنفضة تزيح الكراكيب من عقولهم ، وتعيده للضبط الأول(الفِطرة) القائمة على العقل والمحبة والتسامح والسلام ، ونعيد قصص رجل يدخل الجنة لأنه سقى كلبا فى الصحراء ، وأخرى دخلت النار لأنها حبست قطة حتى الموت.
مَن يقوم بهذا الدور؟ الخطاب الثقافى منوط به البحث عن هذه الكراكيب المعششة فى الأذهان، من خلال المدارس والجامعات والأزهر والكنيسة والمجتمع المدنى؛ هؤلاء عليهم ترتيب التفكير وبدء التنوير بعيدا عن المصطلحات الكبيرة والقواميس الاصطلاحية والمعارك الصالونية أى يخاطبون الناس على قدر عقولهم ، ويبدأون فى بيع الكراكيب مجانا؛ وأتذكر عندما أطلق شابٌ فى المدرسة الصناعية النار على أتوبيس سياحى فى التسعينيات بمدينة قنا، وسأل أحد المذيعين -فى التليفزيون الرسمي- أمَّه الأُمّية عن أسباب فِعلته هذه فأجابت:"مُخّه يا ولدى مَليان كراكيب".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة