لم تمض غير ساعات قليلة على بدء العدوان الإسرائيلى على سيناء الذى بدأ فى الساعة الخامسة يوم 29 أكتوبر 1956، حتى استدعت وزارتا الخارجية البريطانية والفرنسية السفير المصرى فى «لندن» و«باريس» لتسليمه إنذارا، يطالب كلا من مصر وإسرائيل بالانسحاب بعيدا عن قناة السويس لمسافة عشرة أميال، لأن وجود الجيوش المتحاربة بعيدا عن الممر المائى الحيوى مسألة ضرورية لسلامته ولصالح العالم.
جاء الإنذار بمقتضى اتفاقية «سيفر» المبرمة بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا لإجبار مصر على التراجع عن قرار جمال عبدالناصر بتأميم قناة السويس يوم 26 يوليو 1956، وجرى توزيع الأدوار بين الأطراف الثلاثة، بحيث تبدأ إسرائيل العدوان على سيناء، ثم تقوم بريطانيا وفرنسا بتوجيه إنذار مشترك للطرفين، وفى حال رفضه يتم التدخل منهما (راجع ذات يوم أمس 29 أكتوبر)، ووفقا لـ«محمد حسنين هيكل» فى كتابه «ملفات السويس»، فإن أكثر ما أثار استغراب جمال عبدالناصر هو مفاجأة التحرك العسكرى الإسرائيلى فهو «لم ير سببا واضحا يبرره فى هذا التوقيت بالذات، كان تقديره وقت اشتداد خطر التدخل البريطانى الفرنسى بسبب تأميم القناة، أن إسرائيل سوف تتردد حفاظا على صورتها العامة فى آسيا وإفريقيا وأمام الرأى العام العالمى عموما فى القيام بدور التابع لاثنتين من الدول الاستعمارية الكبرى، وفى نفس الوقت كان تقديره وبعد تراجع خطر التدخل البريطانى الفرنسى عقب انتهاء مناقشات مجلس الأمن، أن إسرائيل لن تسارع بالعمل المسلح وإلا فإنها سوف تظهر نفسها فى صورة من يعيد تأزيم الموقف فى الشرق الأوسط بعد أن بدت احتمالات انفراجة، وأن ذلك سوف يعرضها للوم شديد ويضعها فى موقف سياسى صعب قد تفضل تجنبه، وهكذا بدا الهجوم الإسرائيلى على مصر فى ذلك اليوم عملا غير مفهوم فى أهدافه ومقاصده».
كان اهتمامه قبل ذلك بساعات قليلة متجها إلى الأردن، حسب تأكيد «هيكل»: «تكررت التحرشات الإسرائيلية له طبقا لخطة الخداع الاستراتيجى، ولم يكن جمال عبدالناصر بالطبع على علم بها فى تلك الساعات، وركز من جانبه على تدعيم دفاعات الأردن وبعث إليه بشحنات من الأسلحة وأسراب من الطائرات هدية من مصر، وتلقى من الملك حسين ملك الأردن خطابا بتاريخ 27 أكتوبر قال فيه: إن الأردن صابر وهو يتلقى من مصر العزيزة العون الأخوى، ويرى المشاركة القوية المتمثلة فى شحنات الأسلحة من مصر الشقيقة والطائرات النفاثة التى تضعها مصر العرب إلى قوة سلاح الأردن الجوى ليجد نفسه قويا بهذا التأييد الصادق وفخورا بهذا الإسهام المشجع».
قرأ «عبدالناصر» نص البيان الإسرائيلى عن نزول قوات إسرائيلية فى منطقة غرب القناة (عملية ممر ميتلا) ووفقا لـ«هيكل» فإنه لم ينتبه إلى احتمال التواطؤ حتى بعد أن قرأ البيان، وراح يقرأ سطوره وهو يجلس فى مكتب القائد العام للقوات المسلحة ويعيد قراءته ويتصل بهيئة العمليات ثم يبدى استغرابه لإقحام اسم «قناة السويس» فى البيان.
لم يخطر له التواطؤ لأنه كان يعرف أن شبهة التواطؤ مع إسرائيل كفيلة وحدها بإسقاط كل نظم الحكم الموالية للإنجليز فى المنطقة، كما تؤدى إلى زيادة النقمة على فرنسا فى شمال إفريقيا.
يضيف هيكل: «هكذا كانت قراراته (جمال عبدالناصر) منذ وصل إلى رئاسة القوات المصرية موجهة لمقابلة الهجوم الإسرائيلى، وكانت هناك خطة طوارئ معدة لهذا الاحتمال، وقد راجعها مع رؤساء أفرع القوات المسلحة فى اجتماع عقده معهم بسرعة بينما كانت تحركات التشكيلات تجرى بالفعل على رمال الصحراء»، يؤكد «هيكل» على أن التواطؤ أصبح ماثلا للعيان عند جمال عبدالناصر عندما انتهت فترة الإنذار البريطانى الفرنسى فى الساعة السادسة بعد ظهر مثل هذا اليوم «30 أكتوبر 1956»، وبدأت أول غارة للطائرات البريطانية على مطار «ألماظة» الملاصق لبيته، وشاهد الغارة بنفسه فقد سمع أزير الطائرات المغيرة بينما هو فى مكتبه فى البيت مجتمعا مع السفير الإندونيسى فى القاهرة الذى جاء يحمل إليه رسالة من رئيسه «أحمد سوكارتو».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة