ونحن فى مطلع العام الدراسى الجديد، وننشد أن تكون مصر دولة شعبها متعلم، تذكرت قول الفيلسوف "هربرت ماركوز" بأن الانتقال الانقلابى العميق الذى انتقل به الإنسان المعاصر فى الدول المتقدمة علمًا وتقنية وصناعة من عهود طويلة كانت فى أول الأمر معرفته خلالها كلاما فى كلام، ثم تحولت لتنتقل إلى عصره هذا الذى أصبحت فيه المعرفة التى تستحق هذه التسمية أجهزة بالغة الدقة ومقياس.
الانتقال والسرعة وضبط الاتجاهات، ولنقل الصوت والضوء والصورة، ولتحريك الطائرات والغائصات والصواريخ، واختصارًا قد انتقل إنسان هذا العصر من معرفة "اللفظ" إلى معرفة "الأداء".
لم يكن العالم فى السابق يبلغ من علمه حدًا يجاوز إحسانه للكتابة والقراءة ولا يغير من هذه الحقيقة البسيطة أن يكون الموضوع المكتوب أو المقروء فلسفة قيمة أو أدبًا رائعًا فلا تكاد تجد فرقًا ظاهرًا من حيث القدرة على تغير وجه الأرض بحضارة جديدة بين تلاميذ المدارس والجامعات وكبار المفكرين فكلا الفريقين على حد سواء يكتب ويقرأ لكن لا تحركت طائرة بتلك الكتابة والقراءة ولا غاصت غائصة ولا نطق مذياع أو ظهرت صورة ولا اكتشف علاج لمرض أو أفاد البشرية بصنصا جديد. والتفرقة بين نوعى المعرفة تصدق علينا نحن أغلب الدول العربية ألف مرة إذا صدقت على شعوب أخرى مرة واحدة لأن عبقرية العرب كانت فى لسانهم لم تكن اللغة فى ثقافة العرب أداة للثقافة بل كانت هى الثقافة نفسها فأنت مثقف بلغ القمة إذا أنت أجدت الإلمام باللغة فى مفرداتها وفى نحوها وصرفها وفى رواية نثرها وشعرها فإذا جاء علينا عصر يركز ثقافته فى أجهزة وأنابيب ومعامل ومصانع ومراكز بحثية منتجة، أسقط فى أيدينا لأن بضاعتنا شعر ونثر ونحو وصرف ومفردات لغوية ومترادفات وجد عليها ألفاظ العصر الركيكة والتى أهدرت حتى قيمة اللغة العربية الأصيلة، ومع هذا هى كلها أدوات لا تقوى على صنع إبرة فى جهاز صغير جدًا.
والمشكلة الآن هى كيف نتحول من ثقافة "اللفظ" إلى ثقافة "العلم" والتقنية والصناعة.
وأوضح ماركوز أن ذلك لم يكن بالرجوع إلى التراث لسبب بسيط وهو أنه مثل هذه التحديات لم تصادف أسلافنا حتى نتوقع منهم أن يضعوا لها تصورات فالموضوعات التى تدور حول أرجاء الحياة المعاصرة لم تكن موضوع النظر عند الأقدمين، فمثلاً لم يعرف الأقدمين مرض الكبد الوبائى أو مشكلة الأوزون.. إلخ.
وإنه لبعثرة للجهد أن نحلل الماضى كله لالتماس الجواب ولكن يجب أن نضع صوب أعيننا هذا السؤال: إلى أى حد نستطيع أن نجد العون على حل معضلاتنا العصرية عند أسلافنا؟ ولو وجد أنه لا عون يمكن أن يستمد من هؤلاء الأسلاف، يصح هنا قول الغزالى إن "أدوية الشفاء تختلف باختلاف الداء" وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر به آخر. وكانت الدعوة إلى إحياء التراث دعوة تغرى السامع بنغمتها الجذابة لكنها لا تنطوى على نتيجة عملية سوى ما يجده محترفو الدراسة الأكاديمية النظرية فيها من رياضة للذهن والحفاظ على الأثر بعد العين.
ولكن ولكى نطرق كل الأبواب يجب ألا نستبعد كل أفكار الأسلاف حتى ولو كانت وليدة مشكلاتهم، فى تراثهم أفكارا يمكن أن نبتعثها ونعلق بها الرجاء معتمدين على شرائح زمنية ارتفعت فيها ثقافة السلف إلى أوجها.
ففى بعض الظروف قد يكون هناك مطمع فى الرجوع إلى الماضى بعد مفارقته. ولكن يجب أن نجدد ونبتكر. ولتكون مناهج المدارس والجامعات هى أول مطمع من مطامع التحديد والتحديث بما يواكب المعاصرة. ولتكن خطة وزارة التربية والتعليم والتعليم العالى بل وخطة مجلس الوزراء لهذا العام هى النهوض بالمناهج الدراسة والاستثمار والرقى بالمعلم صانع المنتج الأهم فى مصر "الإنسان المتعلم عن حق" محور التنمية ومصدر الثروة القومية المتجددة. يومها سوف يستيقظ الطلاب ليقول بعضهم لبعض، أصبح عندنا الآن تعليم فللجامعة خذونى معكم.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة