مع استكمال انتخابات مجلس النواب الجديد يجب أن يعرف ممثلو الشعب القادمون أن لهم دورًا محوريًا فى تحديد دور تدخل الدولة (من خلال مجلس الوزراء) فى توزيع الدخل القومى، والذى يأتى على مرحلتين وهما مرحلة "التوزيع الأول"، ومرحلة "إعادة التوزيع"، أى مرحلة تكوين الدخول ابتداء، ومرحلة إدخال التعديلات التى تراها الدولة لازمة على هذا التوزيع الأولى. وهو ما يعرف أيضًا فى بعض الحالات بـ"الوضع المالى المحايد"، وهو الوضع الذى لا تؤدى فيه النظم الضريبية ولا الإنفاق العام إلى إعادة توزيع لصالح الطبقات محدودة الدخل، أى لا تدخل أى تعديلات تذكر على التوزيع الذى تم بين عوامل الإنتاج ابتداءً. وهو أشبه بالوضع الذى كان فى مصر قبل قيام ثورة يناير 2011 وبعد ثورة يونيو 2013 وحتى الآن.
لنوضح المعنى أكثر، الأوضاع المالية النسبية فى مصر قبل وبعد الثورة كما هى حيث تنصرف كل الحكومات حتى اليوم إلى الحفاظ على الأوضاع النسبية لدخول وثروات أفراد المجتمع (على مختلف الفئات)، كما لو كنا فى نظام بلا ضرائب وبلا نفقات عامة. فالغنى يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا. وواضح فى هذا المعنى "للحياد المالى" أن أدوات السياسة المالية موجودة، وإنما يستبعد فحسب إخلال هذه الأدوات بالأوضاع المالية النسبية لأفراد المجتمع. أى أنها لا تؤدى دور يذكر فى إقرار العدالة الاجتماعية وتقليص الفوارق بين الطبقات، هذا هو "الوضع المالى المحايد" الذى تعيشه مصر الآن.
أما إذا سلكنا منهج "الفكر المالى التعويضى" والذى ينصرف بصفة عامة إلى أن تقوم النفقات العامة والضرائب بتعويض غير القادرين من خلال ما تقدمه من سلع وخدمات اجتماعية على حساب القادرين لإقرار العدل الاجتماعى وهنا تتدخل الدولة مرتين، حيث إن إعادة توزيع الدخل القومى تقاس بالتوزيع الأول، كان من الضرورى تحديد ضوابط التوزيع الأول للدخول بصفة الوضع الذى يتخذ أساسًا لقياس درجة إعادة التوزيع.
ونفسر المعنى هنا بأن الدولة تمارس التأثير فى توزيع الدخول مع قيامها بخلق دخول جديدة ومستمرة أيضًا.
وحيث إن الحال فى مصر ما زال فى الوضع الذى لا تتدخل فيه الدولة بشكل كافٍ ابتداء فى التوزيع الأول، بل ولا تؤدى فيه الأدوات المالية (الأعباء العامة والنفقات العامة)، على الرغم من وجودها، إلى إعادة توزيع الدخل بما لا يحقق المراد منه. وعليه سياسة الوضع المالى المحايد الذى تنتهجه مصر لا تفضى إلى شىء من العدالة الاجتماعية المرجوة. حيث الفائدة تعود على فرد معين أو مجموعة من الأفراد بعينها (أو بالنسبة لفئة معينة) وذلك بمقارنة ما يأخذه هذا الفرد (أو هذه الفئة) من المنافع العامة والسلع والخدمات الاجتماعية بقدر ما يدفعوه من ضرائب، ومثال ذلك من يدفع منهم الضرائب يحصل على سلع وخدمات مدعمة لا يستحقها (يتسرب الدعم له ولا يصل إلى الفقراء)، أو يسدد جمارك على السيارات ويحصل فى المقابل على منتجات الطاقة المدعمة (ولا يصل الدعم إلى مستحقيه). وهنا تبدو المشكلة واضحة (لا أثر لأدوات السياسة المالية) سواء فى التوزيع الأول أو فى إعادة التوزيع للدخول، ما لم تعالج منظومة هذا الوضع المالى المحايد المشوهة، وتوضع آلية تضمن أن كلاً يدفع حصته فى فاتورة الدولة ويصل الدعم (عينى أو نقدى) وإن كنت أفضل الدعم العينى عن النقدى لعيوبه الجسيمة فى التطبيق، أو اللجوء إلى دعم المنتجين لخفض التكلفة لكافة المواطنين. حتى تتحقق العدالة الاجتماعية بمفهومها الحديث، ولا يحصل من لا حق له على ما هو ليس له، وأن يحصل من له الحق على ما هو له. إننا فى حاجة إلى الانتقال السريع من مذهب الحياد المالى إلى مذهب التعويض المالى، الأمر الذى يتطلب من مجلس النواب القادم- دون غيره- إعادة النظر فى كافة القوانين التى تحمى حقوق محدودى الدخل والفقراء من خلال تفعيل الأدوات المالية وإعادة هيكلة منظومة الدعم ولا يترك الأمر لوزارة أو مجموعة وزارية وحدها تعصف بحال الشعب هنا وهناك، فتلك الأمور المصيرية فى بلد كمصر أكثرية الشعب بها من محدودى الدخول، يجب أن يتولى مجلسهم شئونهم وليس مجموعة اقتصادية تقرر مستقبلهم اليوم وترحل غدا، حتى تحفظ حقوق الفقراء ومحدودى الدخل فى هذا البلد.
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة .
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة