تأمل حالك وأنت تستيقظ فى الصباح الباكر، على المروحة التى توقفت فور انقطاع الكهرباء لتنهض وأنت تتصبب عرقا فى شهر أغسطس الذى امتدت أيامه الحارة إلى سبتمبر، لتدخل الحمام لتجد المياه مقطوعة بسبب كسر فى ماسورة الحى الرئيسية، تناولت زجاجة المياه التى أصبحت فى سخونة الجو بعدما تلفت الثلاجة التى لم تصمد لانقطاع الكهرباء المتكرر، توضأت بما تيسر من ماء ثم صليت الصبح وجلست تستغفر عسى الله أن يكشف الهم والغم، ألم يوصنا النبى الكريم بالاستغفار فى مواجهة الهم والغم، وقمت وأنت تتحسس رأسك الذى لم يكف مطارق الصداع عن طرقها ملتمسا كوبا من الشاى أو القهوة لتسكن به حربا تدور فيها، لتجد أنبوبة الغاز قد فرغت فتبتلع غضبك وتحوقل وتستغفر وتعتصم بالصبر، وترتدى ملابسك على عجل عسى أن تلحق بعملك تتوجه إلى محطة المترو، لتجد جمعا من الناس يخرجون من المحطة وهم يتصببون عرقا مرددين أن المترو معطل، فالكهرباء مقطوعة أيضا عن المترو لتبدأ رحلة البحث عن ميكروباص يعلمك فيه السائقون الأدب، كما لم تتعلمه فى بيت أبيك، تتمسك بما بقى لديك من كرامة وتشير للتاكسى الذى أصبح هو من يحدد وجهته الآن وليس الراكب كما كان فى الماضى.
حسمت أمرك فى النهاية، وقلت الحكاية كلها خمس محطات والمشى رياضة، وإن كانت فى شمس سبتمبر وصلت إلى العمل وقد تصببت ملابسك عرقا وتراخت عضلاتك واستسلمت لأول كرسى فى المكتب لتغط فى نوم عميق، لتفيق بعدها على مديرك الذى يهزك بعنف قائلا، هذا النوم فى بيتك يا سيد وليس فى العمل، الدولة لا تستحق منك ذلك، البلد بحاجة إلى إنتاج وعمل، فجأة استيقظ فيك كل الغضب لتقول: عن أى دولة تتحدث يا سيدى، الدولة التى أهملت أهم واجباتها فى صيانة مرافق الدولة الأساسية فى الكهرباء والمياه والطرق، هل يتصور أحد فى هذا البلد أنه من الممكن أن تستمر مسيرة بلد على هذا النحو، خصوصا مع غياب مؤسسات الرقابة سواء برلماناً أو مجالس شعبية محلية، من يفتش على برامج صيانة قطاع الكهرباء وخطوط وأعمدة الضغط العالى أو تبريد التوربينات فى تلك المحطات، التى أهملت لعقود بدعوى الإهمال واليوم بداعٍ جديد هو غياب التمويل؟
يا سادة قطاع الكهرباء لا يخضع لبرامج الصيانة الدورية الأساسية، هذا إلى جانب سرقة الكهرباء وهذا مما يفسر ــ ربما ــ أزمة الكهرباء التى نعيشها، ثم نذهب إلى المياه سر الحياة، من يراجع برامج صيانة محطات المياه ومواد التعقيم والتكرير، ومن يتتبع شبكات المواسير التى يختلط فيها الصرف الصحى بمياه الشرب، أو المواسير المسدودة أو المكسورة التى تهدر المياه فى المئات من أحيائنا وقرانا، من يراقب الهدر فى مياه الشرب التى تسقى ملاعب الجولف ومنتجعات القطامية والصحراوى، من يراقب الطرق والمطبات التى أصبحت كمائن موت يومية تحصد أرواح عشرات الضحايا، كم من طرق فى مصر هى عبارة عن مدقات لا تتوفر فيها أدنى حدود الأمان أو مواصفات السير للدرجة التى تجعل تعطل مركبة واحدة سببا لتعطل المرور فى هذا الطريق لساعات فى طرق لا تجرى لها أى عمليات صيانة لا دورية ولا غير دورية؟ شبكات الكبارى التى كانت أهم حلول مبارك لمشكلة المرور حتى أطلق عليه البعض رئيس الكبارى، هل راجع أحد حجم الإشغالات تحت تلك الكبارى أو مدى متانة أساساتها أو صيانة الأعمدة أو أجسام الكبارى نفسها؟
إننا نعيش على قنبلة موقوتة اسمها غياب منظومة الصيانة التى لا تجد من يراقبها أو ينهض بها، بدءا من المرافق الرئيسية من كهرباء ومياه وصرف صحى وغاز وتليفونات، إلى طرق، وصولا إلى المبانى والعمارات السكنية، التى لا توجد أى هيئة اليوم فى ظل فساد الإدارة المحلية وغياب المجالس الشعبية المحلية تراقب ما جرى عليها من فساد وإجرام، كم من أدوار بنيت دون ترخيص، وكم من تعديات على أرصفة وحرم طرق، ولعل المبادرة التى أطلقتها الحكومة فى بعض شوارع وسط البلد مبادرة محمودة ولكنها ليست حلا، لأنه لدينا جيوش من الباعة الجائلين خرجوا ترجمة لعجز الدولة عن وضع خطط حقيقية للتنمية تستوعب الوافدين الجدد لسوق العمل، فانتفضت الدولة على نحو مفاجئ وقررت استعادة المظهر الحضارى للعاصمة وهذا جيد ولكن، هل سيفى جنود الشرطة والجيش بالمطلوب، وهل ستبقى تلك القوات فى الشارع حتى لا يعود الباعة الجائلون أدراجهم؟
لا أظن.. إننا بحاجة إلى منظومة تصون حياتنا تحضر فيها الدولة عقلا وجسدا، دون أن يحضر الجسد فى غياب العقل كما نرى كثيرا، نريد أن نرى مؤسسات دولة فاعلة تدرس المشكلة وتضع الخطط وتتابع تنفيذها، وفى القلب من ذلك وضع خطة تحظى برقابة مؤقتة من رئيس الدولة، لحين انتخاب البرلمان والمجالس الشعبية المحلية، هذه الخطة يجب أن تشمل تصورا شاملا لصيانة كل مرافق الدولة من محطات كهرباء ومياه وصرف وطرق ومنازل ومدارس وجامعات، توضع نسخة منها أمام كل مجلس شعبى محلى لكل منطقة يقع فى نطاقها المبنى أو المرفق، لتشارك فى الرقابة وأتصور أن هيئة كالمجلس القومى لحقوق الإنسان تصلح طرفا مؤقتا يطلع على تلك الخطط فى إطار رعايته لحقوق الإنسان المصرى، التى يتضاؤل هامشها يوما بعد يوم، هذه صيحة تنبيه لخطر بدأ فى الكشف عن حقيقته بهذا المشهد الذى قدمت له فى بداية المقال، الصيانة هى الفريضة الغائبة التى لا تحتمل التأخير قبل أن تتهددنا أخطار الفوضى الناجمة عن تعطل مفاجئ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة