كأن الدنيا ربيع والجو بديع، والأشجار وارفة، والبلابل صدّاحة، فما من مشكلات فى الطاقة، ولا انقطاع كهرباء تنصهر الأجساد بسببه فى جهنم أغسطس، ولا اقتصاد يترنح تحت وطأة أكثر من ثلاث سنوات من سوء الإدارة، ولا قوانين مثيرة للجدال وأيضًا للريبة، ولا منظومة تعليم مترهلة مهترئة، تتطلب، وعلى الفور، طرح مشروع قومى حقيقى لا لترقيعها، وإنما لاجتثاثها من الجذور.. مشروع يستشرف تجارب الدول التى انطلقت على درب التنمية معنا بداية الخمسينيات، فسبقتنا بسنوات ضوئية.
كأن كل شىء على ما يرام، فلا زحام مروريًا تحكم قبضته الخناق على المدن الرئيسية، ولا قرى محرومة من مياه الشرب والصرف الصحى، ولا انفلات أمنيًا ماتزال حباله متروكة على الغارب، ولا انتشار أمراض قاتلة كفيروس التهاب الكبد وسوء التغذية لدى الأطفال، ولا مشكلات فقر وجوع وعدالة اجتماعية ما تزال نائية بعيدة، ولا مشايخ تندلق من أفواههم فتاوى التكفير والعنف والجهالة، كما يندلق الماء الوسخ من «المزاريب».
انتهت كل الإشكاليات والمعضلات، ولم يعد أمامنا إلا مشكلة «صافيناز»، الراقصة اللولبية «المهلبية» والغضة الطرية، التى أصبحت حديث الإعلام، وشاغلة الدنيا، والمادة المتفق أو «المتواطأ» على وضعها على موائد برامج الفضائيات، الفنية منها والاجتماعية والسياسية.
آخر أخبار «الرقّاصة» التى لا تملك من المواهب إلا «رج لحمها اللدن» أن وزارة القوى العاملة أصدرت فرمان ترحيلها إلى وطنها أرمينيا، لكن بما أن الوزارة ليست مخولة بتنفيذ القرار، فقد رمت الكرة إلى وزارة الداخلية، التى تغط فى صمت عميق، ولا تكشف عما تنتوى اتخاذه من إجراءات، هذا فى الوقت الذى يعلن فيه مقدم برامج أن جفنًا له لن ينعم بالنوم، وخدًّا لن يستقر على وسادة، إلا بعد طرد الوافدة الأرمينية التى أساءت لمصر حين رقصت مرتديةً العلم، فيما يخوض رئيس نادٍ جماهيرى فى الغمار المحتدم، إذ هو يعرب عن رفضه قرار الترحيل، لأن «صافيناز معملتش حاجة»، دون أن ينسى أن يشن هجومًا على وزيرة القوى العاملة.
ترحل أم تبقى.. تكون أو لا تكون.. تلك هى القضية.. أصبحت صافيناز مسألة «شكسبيرية»، وسؤالا وجوديًا!
كل القضايا الكبرى تراجعت، فالمقروء والمسموع والمطبوع والإلكترونى صار يركز على الزلزال الذى ينجم عن حركة الخصر، والإعصار الذى ينبعث عن رعشة البطن، والنار التى تسرى فى العروق جراء اهتزاز النهدين، والنشوة التى تتدفق من غمزة العينين.
محرقة جنسية تُلقى إليها الأحطاب ليلا نهارا، خاصة فى حال أخذها فى سياق مسلسلات رمضان التى ازدحمت عريًا وخيانة وجنسًا، وبالتوازى مع فتاوى حمقاء، لا تهتم إلا بما تحت السُرّة، على شاكلة ما أفتى به شيخ سلفى لحيته مرسلة بطول قبضتين، من أنه يجب على الزوج غض طرفه عن زوجته، وتركها تُغتصب إذا كان مقترفو الجريمة من الشدة والعنف، ما يمكنهم من قتله، وتذرع مولانا، خاب حاسدوه واندحر كارهوه ولا فض فوه، بأن فتواه تنطلق من قواعد متوافق عليها، منها: درء المفاسد، والمسلم كيّس فطن، لا يرمى بنفسه إلى التهلكة.
لكن هل يعنى ذلك يا مولانا الموقر أن يكون الرجل «ديوثًا»؟
ذاك سؤال لم يجب عنه، فلعل الرجل أميل إلى اختيار الأيسر حال كان إزاء حُكمين، والأيسر فى اعتقاده أن تُغتصب الزوجة، لا أن يموت الزوج، أما الحديث النبوى «من مات دون عرضه فهو شهيد»، فالظاهر أنه لم يمر على مسامعه، كونه مشغولًا بما هو أهم كتوثيق التربيطات السياسية البرلمانية، أو إطلاق الفتاوى التى لا تُغضب أحدًا ممن بين أياديهم الأمر والنهى.. ألا تكبّرون؟!
ومثلما «تسامح» شيخنا فى شأن اغتصاب المرأة، يبدى شيخ آخر تسامحًا «متنطعًا» بدوره، فيفتى بجواز أن يتلصص الخطيب على خطيبته وهى تستحم، فيرى مفاتنها أو بتعبير أصدق- رغم فجاجته- فيعاين البضاعة، بحيث يقر عينًا ويطمئن على «مستقبله الجنسى معها»، وهذا فى رأى فضيلته أدعى لأن تدوم الحياة بينهما، والغريب فى الأمر أن شيخنا ذاته ممن يقولون بأن صوت المرأة عورة.. إذن أفلا تُكبّرون مرةً ثانية؟!
سياق ثالث لسعار الغريزة، بعد صافيناز وفتاوى ما تحت السُرة، يتمثل فى الضجة التى أثيرت حول فيلم «حلاوة روح» الذى قررت الحكومة بقدها وقديدها وجلالة قدرها منعه بعد إجازته من قبل الرقابة، وعقب ضجة إعلامية ضخمة أثارت من الغبار ما أثارت، وأريق فى جحيمها ما أريق من مقالات مؤيدة ومعارضة، حول الفيلم المدرج كاملًا دون حذف على مواقع الشبكة العنقودية، والذى تباع نسخه «المضروبة» على الأرصفة، وعلى عينك يا تاجر، وكذلك على عيون حماة الفضيلة أعداء الرذيلة من رجالات الحكومة الموقرة الجليلة، ولا عزاء لقرار المنع، ولا عزاء أيضا لقوانين الملكية الفكرية المنتهكة.
صافيناز الظاهرة الصاخبة إذن، ليست ظاهرة مستقلة بذاتها، وليست زلزالا جاء إلى قاهرة المعز من أرمينيا، بشكل عفوى، ليقلب الأمور رأسًا على عقب، فالتأمل العميق لفسيفساء المشهد المبعثرة، يفضى إلى يقين بأن ما على صدارة الاهتمام، وما يُرمى إلى الأدمغة محض قمامة لا شىء فيها سوى المتعفن والمتحلل، فهل ثمة مؤامرة على الوعى المصرى الجمعى؟
ليس الاستغراق فى فكرة نظرية المؤامرة، والاستسلام لها كليًا مما يستساغ على الدوام، ذلك أن هذا الباب يفتح أبوابًا أمام التحليلات الخزعبلاتية التى يقول بها «خزعبلاتيون» على شاكلة أن الدمية «أبلة فاهيتا» متورطة فى اقتراف جريمة تخابر، لكن التواتر والتكرار والإلحاح على طرح مضامين بعينها، يحيل بالضرورة إلى رؤية المفكر والفيلسوف الأمريكى الكبير نعوم تشومسكى، بوجود استراتيجيات إلهاء ترتكز على تحويل انتباه الرأى العام عن القضايا المهمة، إلى القضايا الأشبه بالفقاعات، وذلك عبر جعل الشعب «منشغلا ومنشغلا ومنشغلا»، وهو الأمر الذى تكاد صافيناز وأخواتها من ظواهر ومن موضوعات تفعله.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة