فى العصور القديمة كان يمكن أن يضل شخص طريقه ويعود إلى وطنه بعد سنوات طويلة، وكان يمكن أن تختفى سفينة فى البحر، وبعد سنوات طويلة نكتشف أن عددًا من بحاراتها يعيشون فى إحدى الجزر المجهولة، أو يُنسى شخص فى الغابة ويصبح صديقًا للحيوانات.. هذه الحكايات استُلهمت منها روايات، وصنعت منها السينما أفلامًا جميلة، ومن آخر العجائب الجندى اليابانى الذى ظل فى الغابات منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لمدة خمسة وعشرين عامًا ينتظر أن يأتيه الأمر بتسليم سلاحه. حين نشر أمر هذا الجندى الذى عثر عليه بعد خمسة وعشرين عامًا من الحرب كان حديث الدنيا، ولقد توفى أخيرًا منذ أشهر. كان بقاؤه خمسة وعشرين سنة مع سلاحه، مختفيًا فى الغابات، دليلًا رائعًا على الشخصية اليابانية المطيعة للأمر، ولقداسة الأكبر فى اليابان، وهو أمر معروف عبر التاريخ.. كل هذه العجائب كان سببها اتساع العالم حول الإنسان، وإمكانية أن يضل الطريق، وكل من اختفوا وعادوا لم يعرف عنهم أنهم لصوص مثلا.. شخصيات عادية حين تكتمل قصتهم بالعودة إلى الوطن تصبح شخصيات أسطورية.. فى حياتنا المصرية فى الأيام الأخيرة ظهرت عجائب من نوع آخر، منها حكاية العثور على قطار تمت سرقته بمحافظة الوادى الجديد منذ عشر سنوات أو أكثر، هذا رغم أن القطار يمشى على قضبان، ووجد متوقفًا على قضبان، لم يصبح القطار بعد العثور عليه أسطورة لأنه جماد، ولم ينتبه أحد إلى أسطورة هيئة السكة الحديد التى ظلت كل هذه السنوات تعتبر القطار مفقودًا! وهو الذى لا يمشى إلا على قصبان معروفة.
لم يكد هذا الخبر يختفى حتى ظهرت الأعجوبة الأخرى لهيئة السكة الحديد، وهى سرقة قضبان تمتد لمسافة مائتى كيلومتر، من قنا لسفاجا، تصور!.. مائتا كيلومتر تكلفتها سبعمائة مليون جنيه، لماذا وكيف؟، لأنها صارت مهملة منذ سنوات، منذ أن توقف العمل فى مشروع سماد أبوطرطور - يعنى مش كفاية الخسارة اللى تسبب فيها المشروع - ومن ثم لم تعد تمشى عليها القطارات فأهملت.. طبعا لازم تتسرق، خصوصًا بعد ما جرى فى البلاد من اختفاء للأمن بعد يناير 2011، لكن الأمن لا يختفى كثيرًا، شهور وعاد، ورأيناه فى كل المظاهرات التالية، خاصة منذ أحداث محمد محمود الأولى، ونراه يقوى كل يوم، وبالذات على المتظاهرين، ثم إن أمن السكك الحديدية لا علاقة له بالعمل خارجها، ولم يتأثر بما جرى فى البلاد من ثورة، أو جمع احتجاج أو مظاهرات.. زمان، كنت أرى أمن السكك الحديدية فى زى أصفر مختلف عن زى الشرطة العادية، ولا أعرف هل مازال الأمر كذلك أم لا؟، لكن لابد أن أمن السكك الحديدية موجود بعيدًا عن المظاهرات. طبعًا العثور على قطار بعد سنوات نكتة، لأن أى شخص كان سيمشى مع القضبان كان سيجده، كما وجدوه سليمًا، وما يلحق به من عربات سليمة أيضًا.. نكتة، ولا يهتم أحد أن يسأل من المسؤول عن هذا الإهمال، هل كان المسؤول عن القطار ينتظر رسالة منه أو شكوى يرسلها القطار إلى برامج التوك شو يقول فيها إنه يقف وحيدًا منذ سنوات لايسأل عنه أحد؟.. نسيت خبر هذا القطار الضائع، لكنى تذكرته مرة أخرى حين قرأت عن سرقة مائتى كيلومتر من القضبان الحديدية.. طيب لماذا أهمل الخط بعد توقف إنتاج سماد أبوطرطور؟ لماذا لم يتصور أحد أن خط سكة حديد بلا قطارات فوقه لعدد من الشهور فى الصحرء سيكون مغريًا للصوص؟ هل المسؤول فى السكة الحديد لا يدرك ذلك؟ أم أنه يتصور أن مصر بلد لا يوجد فيه لصوص مثلا؟.. اللصوص ظلوا يقطعون فى القضبان، وعلى مهل، بل يبيعون ما يقطعونه فى مدن بعيدة، ولقد قبض على بعضهم، ومن هنا جاءت المعرفة بما جرى، وإذا بالمائتى كيلومتر صارت بلا قضبان.
إن توقع سرقة القضبان هو أسهل شىء يمكن أن يصل إلى الفكر بعد أن صارت القطارات لا تمشى عليها، هذه العجيبة ليست فيما فعله اللصوص، بل فيما فعله المسؤولون عن السكك الحديدية من إهمال للمائتى كيلومتر من القضبان.. سبعمائة مليون جنيه أمر تافه طبعًا، فحكوماتنا تعودت من زمان أن تفوض أمرها لله، ثم إنها لا ترى شعبًا، فهل ستهتم بالقضبان؟!
خلاص، العوض على الله، لكن ننتقل إلى الإعلام.. اتهرينا كلام عن الإعلام المحايد، وأهمية الحياد فى الإعلام، ثم فجأة صار ثمانون فى المائة على الأقل من الإعلاميين يتحدثون لغة واحدة، تبرر كل تصرفات الدولة، وتدين كل من يختلف معها.. هؤلاء لا يقدمون أى رأى آخر.. الأعجوبة ليست فى ذلك، لكن فى أنهم يتحدثون مثل بعضهم فى اليوم الواحد، ألا يشى هذا بأن هناك من يوجه هؤلاء كل يوم؟، الأعجوبة ليست حتى فى هذا التشابه، لكن فى اعتقادهم أن الناس ستقتنع بما يقولون دون أن يسألوا أنفسهم لماذا يتشابهون كل يوم حقًا.. الأعجوبة فى أنهم لا يحاولون أن يتميزوا قليلًا بعضهم عن بعض، فيأكدوا لمن يكون سيئ الحظ ويتابع اثنين أو ثلاثة فى نفس اليوم أنهم يغرفون من إناء واحد.. طيب، خلاص.. هم أحرار، الإعلام بتاعنا، وإحنا أحرار فيه، وقولوا ما تقولونه عنا، فلن نهتم بشتائمكم على مواقع الإنترنت.. نأتى إلى الأعجوبة الثالثة، وهى الألفاظ الخادشة للحياء التى صارت تتقافز من الشاشات مثل رذاذ العطس.. ألفاظ لا أستطيع أن أكتبها أنا هنا، كيف حقًا صار الإعلام شتامًا هجامًا على هذا النحو؟، شاطرين بس تقولوا على مشهد فى فيلم إنه قلة أدب، ويفسد المشاهدين.. طيب حين يسمع المشاهد مذيعًا أو ضيفًا يقول ألفاظًا بذيئة على الشاشة، ألا يتأثر، خاصة أنه لا ضرورة فنية لذلك مما قد يكون فى بعض الأحيان وراء الفيلم.. تقول لى ضرورة سياسية؟!، ومنذ متى كانت السياسة بذيئة فى الألفاظ، السياسة قد تكون فعلًا كلها شر، لكن تبرر بكل مفردات الخير، بالكذب فقط، وليس بالشتائم والكذب معًا.. من فضلكم اكذبوا ولا تشتموا.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة