لم أكن أعرف عنه إلا صيحته الزاعقة «مدد مدد مدد مدد شدى حيلك يا بلد» تلك الصيحة التى أطلقها لتهزم مصر هزيمتها وتستعيد كرامتها وتأكل من الأراضى التى خضبها أبناؤها بدمائهم، فإذا بنا نحول هذه الصيحة العظيمة إلى نكتة قديمة، وإذا بنا نهزأ بها ونتندر، وإذا بالأيام تمر فلا تجد لهذه الصيحة صدى إلا فى مباريات كرة القدم، وبالتحديد فى أواخر المباريات المفصلية، وبعدما كانت الصيحة تهز القلوب وتشعل الأرواح، وتحرك المصانع والمدافع والجيوش، صار أقصى آمالنا منها أن تهز الشباك وتشعل المدرجات وتحرك الأعلام وتغازل مرضى العروش.
قابلته منذ سنين فى أوائل إصدار العدد الأسبوعى من «اليوم السابع»، وكنت قد أهلت نفسى لعمل عدة حوارات مع وجوه مصر الزاهرة التى غلفت تاريخ بلدنا برقاقة من الفن أكسبته حلاوة فى الروح وتوغلا فى الوجدان، قد أنوى أن أدير معه حوارا حول ابتعاده عن العمل الفنى ورأيه فيما يحدث من تخبط سياسى واقتراحاته من أجل الخروج من أزمة الاستبداد السياسى الذى كان هو أحد ضحاياه، فإذا بى أجد بلدا بأكمله يختبئ فى قلب هذا الرجل، بلد نشم رائحته إذا ما مررنا صباحا بجوار نهر النيل، ونشعر بدفئه إذا ما لسعنا برد يناير، ونتخلق بخلقه عند كل أزمة.
فى التاريخ الفرعونى رأيته فلاحا فصيحا، يحب الحياة ويكره الظلم ويقدس الغنوة ويعيش فى الحكاية، كان من المقرر أن أجلس معه ساعة لا أكثر، فإذا بالحوار يمتد إلى أربع ساعات طوال، أعقبتها أربع ساعات أخرى فى اليوم التالى، صار يحكى وأسمع، يحكى وأرى، يحكى وأدون، لم تتحمل ذاكرة المسجل كل ما قاله، فالحديث توغل إلى التاريخ حديثه وقديمه، وهو كما يقول محمود درويش كان يبدو كشاهد المذبحة وشهيد القصيدة، فأما المذبحة فهى مؤامرة قتل مصر بطرفيها العسكرى والدينى، وأما القصيدة فهى مصر ذاتها التى تستعصى على المتآمرين.
امتدت لقاءاتنا بعد ذلك كثيراً، وكنت كلما أراه أشعر أنه كطفل صغير يحاول التعلق بالآمال، ويتسرى بلعبة صغيرة ومملة إذا ما غابت عنه أمه وأمنا، يخبره من حوله بالأخبار السيئة، فتكاد تدمع عيناه من فرط التأثر، يسألنا واحداً واحداً عن آرائنا فى الحياة والموت والإسلام والمسيحية والانتماء والوطنية، يحكى لنا عن تجاربه الطويلة فى حب الوطن، يرويها فنشعر بأننا نعيشها، يفتخر بإصابة فى قدمه نالها فى العدوان الثلاثى وقت أن كان ضمن قوات الكفاح الشعبى، نتقلب معه من الوفد القديم إلى الناصرية المتهورة، ثم إلى النقمة على عبدالناصر، ثم إلى الوفد الجديد ثم إلى الغد ثم إلى الصمت، ثم إلى الموسيقى التى لم تفارقه يوما ولم ينسها ولم تنسه، يقول لى: نفسى أعمل لحن قبل ما أموت، وأنسى أن أسأله عما يمنعه من عمل اللحن، وينسى أن يقول لى هو أيضاً.
لا أعرف ما شكل هذا اللحن المكتوم الذى كان يأمل «نوح» فى أن يؤلفه، لكنى أستطيع أن أجد نغماته ونوتاته فى قلب كل مصرى يحب هذا البلد ويذوب عشقا فى هويته المستقلة، أسمعه فى أغانى الأمهات للأطفال وأسمعه فى ألحان الأطفال وهم يلعبون، وأسمعه فى عديد الحزانى فى القرافات، وأسمعه فى أغانى الأفراح الريفية المحملة بشحنات الأجساد المتقدة، وأسمعه فى المظاهرة التى خرجت من أجل حرية مصر، تهتف وتقول: شدى حيلك يا بلد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
اضف تعليق
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة
عدد الردود 0
بواسطة:
اسماء
الله يرحمو
ويرحمنا