كل سنة وإنت طيب.. هذه هى أكثر عبارة قيلت على لسان المصريين طيلة الأيام الماضية.. تبادلها كل واحد منا مع كل من يراه.. فى الشارع والبيت والمكتب والسوق والنادى ومحطة الأوتوبيس والمطعم والميكروباص وكل مكان.. وبعملية حسابية بسيطة.. نكتشف أن مصر فى تلك الأيام امتلكت رصيداً خرافياً وهائلاً من الدعوات بالطيبة.. ولأننى أثق أن كثيراً من هذه الدعوات كانت صادقة ومخلصة.. وأن كثيراً ممن قالوها ممكن جداً أن تستجيب السماء لدعواتهم وتمنياتهم.. فهذا يعنى أن مصر اليوم غدت أكثر طيبة مما كانت من قبل.. والسؤال الحقيقى والملح الآن هو: هل تحتاج مصر لكل هذه الطيبة؟.. وعلى الرغم من أنه سؤال واحد.. فإن إجاباته كثيرة ومتباينة ربما إلى حد الصدام والتناقض.. ولا أظن أن أى أحد منا يملك وحده حق اختيار الإجابة الصحيحة.. فأنا على سبيل المثال أؤمن أننا شعب طيب أكثر من اللازم، وأنه آن أوان أن نتخلص من كل هذه الطيبة.. بينما يرى غيرى أن المصريين شعب حكيم يعرف على وجه الدقة متى يثور.. ولماذا وعلى من وماذا يريد من ثورته.. ولست على استعداد لقبول هذا الاجتهاد والرأى والاقتناع بهما.. وإنما أميل أكثر إلى أننا شعب لا يثور.. حتى حين يمارس الغضب تحت وطأة ظروف ثقيلة ومهينة وقاسية وموجعة.. فإنه دائماً غضب غير مكتمل.. وغير واع.. غضب عشوائى سرعان ما يتحول إلى تخريب أو تدمير هنا وهناك سرعان ما تعود بعده الحياة لسابق عهدها ويبقى الناس يستكملون غضبهم بالنكتة والسخرية الصامتة.. لماذا.. لأنهم طيبون.. وهذه الطيبة تجعلهم دائماً يتعاملون مع أى حاكم كأنه صاحب فضل عليهم.. وبالتالى تتحول واجبات أى حاكم إلى عطايا وهبات يقدمها الحاكم للناس وليست حقوقا طبيعية وأساسية للناس لدى أى حاكم.. وأنا بهذا الشأن.. أود التوقف عند حادثتين فى تاريخ المصريين أحب من وقت لآخر الرجوع إليهما للتأمل والاستدلال والاستشهاد بهما على أننا ما نزال نحتاج تعلم كيف نغضب وكيف نثور.. الحادثة الأولى هى تلك المحنة التى توقف أمامها طويلاً تاريخ مصر كلها حزيناً وموجوعاً.. تلك المجاعة التى ألمت بمصر فى عهد الخليفة الفاطمى.. المستنصر بالله.. ودامت سبع سنوات.. وفيها جاعت مصر كما لم تشعر بالجوع مطلقا من قبل.. غاب النيل ومات الزرع فى الأرض.. ولم يجد الناس ما يأكلونه.. فأكلوا جذوع النخل وجلود البقر فى أول الأمر.. ثم استداروا وأكلوا القطط والكلاب حتى قل عددها وشح وجودها.. فبيع الكلب بخمسة دنانير والقط بثلاثة.. ثم بدأ الناس يأكلون جثث الموتى.. ولم يعد هناك مفر من أن يأكل المصريون بعضهم بعضاً.. فكانت الناس تجلس فوق أسطح بيوتها مجهزة بأسلاب وحبال.. فإذا مر إنسان قريبا منهم.. ألقوا عليه بحبالهم.. فقيدوه واقتطعوا لحمه وأكلوه.. وكان الرجل يسطو على بيت جاره فيسرق طفله ويأكله.. بل كان الكلب يدخل الدار فيأكل الرضيع فى المهد ووالداه ينظران إليه لا يستطيعان المقاومة من شدة الجوع.. وحاول المستنصر مقاومة ذلك.. أو إعانة الناس على ذلك.. فباع كل ما يملك من جوهر وياقوت.. باع حتى رخاما زين به قبور أجداده.. وكل ما يملك من دور وضياع.. ولم يبق عنده عيال أو خدم أو شىء سوى سجادة يجلس عليها وقبقاب يرتديه فى قدمه.. ولم يعد ما يقتات به إلا صحنا واحداً كل يوم من طعام البر والصدقات ترسله إليه شقيقته.. وكان إذا أراد الخروج يستعير من وزيره بغلته يقضى عليها أشغاله ثم يردها إليه مرة أخرى فور عودته.. وحتى هذه البغلة سرقها الناس وأكلوها.. فقرر الوزير عقابهم وشنقهم فما طلع الصباح على جثثهم مطلقا.. إذ تخاطفتها الناس من فوق المشانق وأكلوا لحمها عن آخره.. وبسبب ذلك.. مات ثلث أهل مصر.. فمن لم يمت جوعاً.. فتكت به الأوبئة والأمراض. ومن السهل حينئذ.. وفى مناخ كهذا.. كان من الممكن أو من الواجب أن يثور المصريون على الحاكم وأن يتهموه بالعجز والإخفاق.. لكن أبداً.. يحكى لنا الجبرتى وابن إياس أن الخليفة كان يمشى وسط الناس لا يخشى الناس وغضبهم ورفضهم.. ولا أظن أن ظروفنا الحالية ومواجع الناس فى زماننا.. أشد قسوة ومهانة من تلك المجاعة الفاطمية التى لم تنجح فى إقناع المصريين بالثورة وتغيير الحكم والحاكم.. أما الحادثة الثانية.. فكانت هزيمة يونيو عام 1967.. حيث تؤكد لنا كل علوم السياسة أن هزيمة الوطن فى أى حرب.. هى بالقطع قمة إخفاق النظام الحاكم لهذا الوطن.. وقد كانت بالفعل هزيمة يونيو هى الوجع المصرى الأهم والأعظم فى التاريخ المصرى الحديث.. ففى لحظة.. انفتحت كل الجراح.. انكسرت القلوب.. ضاعت الأحلام والكبرياء والشرف والعرض والأرض أيضاً.. ورغم ذلك لم تشهد مصر أى مظاهرات رافضة أو غاضبة.. بل على العكس.. رقصت مصر وغنت وهى تتوسل لجمال عبدالناصر أن يبقى حاكما.. وبدلا من التفكير فى التغيير والإصرار عليه.. راحت مصر تمارس أغرب احتجاج فى تاريخها.. فبعد أن عمت الكآبة قلوب الجميع ونفوسهم.. وبعد أن سيطر الشعور بالنقص على كل المصريين.. قرروا أن يهربوا بالغرق فى بحار اللذة.. سواء كانت لذة الجنس الفج أو السخرية العارية من الجميع.. فزاد إلى حد الهوس معدل استهلاك المهدئات والمنبهات والمنشطات الجنسية.. وتوالت النكات والحكايات السافلة والأغانى والمشاهد القبيحة.. وانتشرت الكتابة السرية.. شعر بذىء يشتم النفس والآخرين.. كأنه بعض فصول ألف ليلة وليلة فى أزهى عصور الانحطاط العربى.. وانتشر الشعر السرى المعارض.. وإلى جانب القصيدة الفاضحة.. كانت النكتة العارية.. نكات لم يسلم منها أحد ولم يعترض عليها أحد.. نكات تعرى فيها جمال عبدالناصر.. وأخرى نزعت حتى ورقة التوت عن المشير عبدالحكيم عامر وكل ضابط وكل جندى.. وكل رجل وامرأة فى مصر.. الكل امتلك القدرة على أن يسخر من الكل.. الكل أصبحوا عراة بعد أن أصبحت سيناء هى أعراضهم المستباحة.. هى عوراتهم الملقاة فى العراء على شاطئ القناة والذل والمرارة واليأس العظيم.. وبعدها.. يوما بعد يوم وسنة وراء أخرى.. نسى الجميع كل ما جرى.. وأكد المصريون أنهم ليسوا من الشعوب التى تطلب التغيير بالقوة أو تجبر أى حاكم على الرحيل.. شعب ما يزال حتى اليوم يبرهن بألف طريقة على أنه طيب للغاية.. طيب جداً وكثيراً.. وبالتالى لم يكن فى حاجة لكل هذه الدعوات والتمنيات التى تبادلها الجميع طيلة الأيام الماضية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة