لا تصدقوهم حين يسخرون من المتطرفين الذين يرتدون الثياب القصيرة ويحملون ذقونهم الطويلة.. لا تصدقوهم حين يقولون لك إن الدين إيمان واقتناع وسلوك وليس فيه كل هذه الشكليات والمظاهر.. فالذين يقولون ذلك.. هم أيضاً يمارسون الدين شكليات ومظاهر، حتى وإن لم يطيلوا الذقون أو يقصروا الجلاليب والسراويل.. فالدين فى حياة معظمنا أصبح مجرد أشكال ومظاهر ومناسبات.. فى الصحافة مجرد مساحة روتينية كل يوم جمعة.. وفى التليفزيون الحكومى والفضائيات الخاصة مجرد برامج للحوار وللدعاة غالباً فى شهر رمضان فقط.. وفى السياسة غالباً لا يظهر الدين إلا لامتصاص غضب الناس أو للتأثير عليهم.
قد يكون ذلك أمراً طبيعياً فى دولة نامية لا تزال تحلم وتحاول الاستيقاظ من رقادها الذى طال وخمولها الذى امتص قوتها وقدرتها على اللحاق بعصرها.. فهناك أكثر من رؤية واجتهادات لا أول لها ولا آخر أجمعت كلها على أن الدين ضد التقدم وضد التحضر.. ومصريون كثيرون عاشوا سنين كثيرة مضت مأخوذين بما يجرى فى الغرب.. وبلغت ببعضهم الحماسة والقدرة على تصور أن بلدان أوروبا.. والولايات المتحدة بالطبع.. لم يتقدموا ولم يسبقوا إلا لأنهم نحوا الدين جانبا.. بينما نحن.. فى مصر وعلى الأراضى العربية والشرقية.. لم نتخلف ولم ننكسر إلا لأننا تمسكنا بالدين أكثر مما ينبغى، وتركنا الدين يؤثر على قوانيننا وأفكارنا وأحكامنا وحساباتنا.. ولم يكن كل ذلك صحيحاً.. فلا هم هناك تقدموا لأنهم خاصموا الدين.. ولا نحن هنا تخلفنا لأننا ارتبطنا بالدين.. فالدين لم يكن من بين الأسباب والعوامل الكثيرة سواء للتقدم أو التخلف.. وإذا كانت هذه حقيقة مهمة لابد من الاتفاق عليها.. فإن هناك حقائق أخرى لا تقل أهمية.. على رأسها ما قر فى وعينا ووجداننا بأننا نحن وحدنا أى المسلمين الذين بقينا على ارتباطنا بالدين.. وأن هذا هو سر تخلفنا وتراجعنا.. وبالتالى أصبح ممكنا.. وفى بعض الأحيان لازماً.. قذف الطوب والحجارة.. والشتائم والإهانات.. على كل من يجيئنا الآن ويتحدث عن الدين بصوت عال فيحبه الناس ويلتفون حوله.. أصبح هؤلاء هم الخطر وهم الإزعاج.. وباتت عداوة هؤلاء أمراً حتمياً لكل من يريد التقرب من السلطة ومنافقتها.. فأى داعية جديد.. يصبح من الضرورى حشره فى قوائم العملاء والخونة.. أو هو على الأقل مجرد واحد من الجهلاء الذين لا يحق لهم الحديث فى أو عن الدين.. والمرأة أو الفتاة إن ارتدت الحجاب باتت إمرأة رجعية ومتخلفة.. وغبية أيضاً.. اختارت أن تغطى شعرها، وفى مقابل ذلك تنازلت طائعة وراضية عن أحلامها وطموحها ومكانها فى المجتمع والحياة وفى أى وكل بيت.. أما الذين يكتبون عن الدين.. وعن ضرورة العودة إلى الدين وإعلاء أحكامه وتعاليمه.. يصبحون مثاراً لسخرية جوقة النفاق وزيف السلطة وبريقها الفارغ.. فى حين أن السلطة زائلة.. والجوقة قطعا زائلة.. والباقى هو الدين.. حتى وإن غضب عليه أو منه هؤلاء الضالون وما أكثر الضلال فى مصر هذه الأيام.
ولعله من اللازم والضرورى.. عند طرح هذه القضية للناس وعلى الناس وللنقاش والحوار وتبادل الآراء والأفكار.. التأكيد على أن مصر ليست كأى دولة أخرى فى العالم.. لأن مصر هى الدولة الوحيدة فى العالم على عكس بقية بلدانه وممالكه وإمبراطورياته القديمة والجديدة لم تولد أولا.. ثم بدأت بعد مخاض الميلاد تفتش لنفسها عن إله وعن دين تعرف به طريق هذا الإله وتتقرب له وتقترب منه.. وإنما ولدت مصر وهى على يقين منذ لحظاتها الأولى.. بأن لهذا الكون إلها.. ولهذا الخلق إلها.. للشمس إله.. للنيل إله.. للحياة كلها إله.. وعلى المصريين جميعهم عبادة هذا الإله وطاعته خوفا من النهر الذى قد يغضب عليهم ومن الصحراء التى ممكن أن يشتد حصارها لهم فتقسو عليهم.. وبهذا الدستور وهذه المعايير.. تأسست أول دولة وأول مجتمع فى مصر وفى التاريخ أيضاً.. وبقى هذا الدستور قابعاً فى أعماق كل مصرى ومصرية.. وبقى الدين.. أياً كانت طقوس عباداته وملامح شعائره وتراتيل صلواته.. ساكنا تحت جلد المصريين وفى قلوبهم ووعيهم حتى وإن لم يبد واضحاً وظاهراً.. فالكلام عن أو فى الدين.. غالبا ما يصادف هوى المصريين حتى وإن لم يكونوا متدينين بالشكل الكافى أو الواضح.. وهى رؤية غالبا ما تغيب عن بال كل الذى يستفزه.. أو يوجعه ويصدمه نجاح الإسلاميين والتفاف الناس حولهم.. فيبدأ هؤلاء الحرب على كل وأى رجل لعب الدين دوراً فى شهرته أو نجاحه.
وفى شهر رمضان الذى اقترب منا كثيراً جدا.. سنشهد قطعا حملات إعلامية كلامية وكتابية جديدة وكثيرة.. تحاول تشويه كل ما قد تطاله الأيدى والألسنة والأقلام من رجال لمعوا وتألقوا ارتباطا بالدين وبالدعوة إليه.. ولست هنا أنوى الدفاع عن الذين ارتبطوا بالدين ويواصلون الدعوة للعودة إليه.. وإنما أنوى الدفاع عن الدين وعن ارتباط المصريين بالدين.. لأننى أثق فى أن الذين سيقومون بهذه الحملات الجديدة أو الذين قاموا بالحملات القديمة.. هم ليسوا فى حرب حقيقية مع أى من هذه الأسماء التى يهاجمونها أو يحاولون تجريدها من أية مصداقية أو احترام.. إنما هى حرب ضد التدين وضد المد الدينى.. لأن الذين قاموا بهذه الحرب يتخيلون أن الخطر الأكبر.. القادم.. عليهم.. أو على سادتهم وشركائهم وحلفائهم.. هو الدين.. لأنهم يعرفون أن العودة إلى الدين لن تكون فى صالحهم وأن أحكام الدين ومعايير الحلال والحرام لن ترحمهم ولن تغفر لهم ذنوبا وآثاما وخطايا لا أول لها ولا آخر، ممكن أن تتغاضى عنها وتتجاوزها أحكام دستور أو تطبيقات قانون.
وبودى لو يقبل هؤلاء دعوتى لحوار هادئ وعقلانى.. ومحترم.. أشرح لهم فيه أن جهدهم بلا طائل وأن حربهم خاسرة حتى قبل انطلاق أولى رصاصاتها.. فالدين قادم وعائد.. أو بمعنى أكثر أمانة ودقة.. الدين الساكن فى الأعماق ستتكشف أوجهه قريبا بعد انجلاء غبار كثير تراكم فى سنين ماضية طويلة انشغل الناس فيها بدنياهم عن دينهم وركب سلطانهم قادة حاولوا قدر المستطاع إزاحة الدين من تفاصيل ومشاعر وشعائر الحياة اليومية.. ليس فى مصر وحدها.. ولا فى العالم الإسلامى المعجون بالدين والارتباط والتعصب والشكوك والمخاوف.. وإنما سيعود الدين فى كل مكان ولكل مجتمع أو بلد.. فالقراءة المتمهلة والمتعمقة لكل هذا الذى يجرى فى هذا العالم الكبير حولنا.. تشير إلى ذلك.. يؤكد ذلك.. يستشرف ما سوف يجرى بعد سنة أو عشر أو خمس عشرة سنة.
ولست أفضل أن أبدأ التدليل على ذلك بما قاله البابا بيندكت السادس عشر.. بابا الفاتيكان.. فى أول مجمع كنسى يحضره بيندكت بعد اعتلائه كرسى البابوية.. حين أكد أنه بدون الدين.. سيختفى من دنيانا العدل والتسامح.. ستكبر مساحة النفاق والكذب والكراهية.. وستتحول الأرض بعد عمرانها إلى صحراء قاحلة.
كان هذا هو ما قاله البابا فى الفاتيكان.. ولكننى أراها دعوة طبيعية وجاءت على لسان رجل دين مفترض أنه منحاز طبيعيا إلى الدين.. حتى وإن كانت ولا تزال هناك خلافات فى الرؤى والرأى بين البابا وبين المسلمين.. وغير كلام البابا عن دنيانا بغير الدين.. أود التوقف مثلاً عند عبارة عابرة جاءت مؤخراً على لسان المستشار الألمانى السابق.. جيرهارد شرودر.. وهو يكتب مذكراته التى صدرت منذ أشهر بعنوان.. حياتى فى السياسة.. وفى هذه العبارة يؤكد شرودر أن الدين.. كان يؤثر بشكل حقيقى ولافت للنظر على قرارات وأفكار وأحكام الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش.. وأن بوش فى جلساته الخاصة.. كان رجلاً دائم الحديث عن الله.. والخوف من الله.. وأظن وبعض الظن حلال أن ما قاله شرودر يقودنا للبحث عن الدين فى البلدين.. الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا أيضاً.. ففى المجتمع الأمريكى وأرجوكم أن تراجعوا وتتأملوا دور الدين فى الانتخابات الأخيرة التى جاءت بأوباما رئيسا للولايات المتحدة بدأ الدين يعود بقوة ويعلن عن نفسه وعن عودته بكل ما يتطلبه مثل هذا الأمر من صخب وصوت عال.. ولست أقصد هنا الولايات المتباعدة والبيوت الهادئة فى الشمال أو الجنوب الأمريكى.. فهؤلاء متدينون بطبعهم ولم يخرج الدين أبداً من بيوتهم ومن حياتهم.. وإنما أقصد البيوت والمكاتب فى واشنطن.. حيث القادة المتدينون المحافظون.. والرجال النشيطون الذين يؤمنون بأنهم بعد أن جاءوا بأوباما.. وقبله جاءوا ببوش.. رغم خلافات الشكل والسياسة والانتماء الحزبى.. وهم الآن يريدون الثمن.. يريدون تعيينات قضائية محافظة.. تعديلات فيدرالية تمنع زواج الشواذ.. قوانين صارمة تمنع الإجهاض وتجابه الدعارة وتقف ضد بحوث وتجارب الاستنساخ البشرى.. وبدأت بعض الجامعات الأمريكية الكبرى تنفق الملايين على برامج تدعو الأولاد والبنات للامتناع عن ممارسة الجنس قبل إتمام الزواج.. وأمور أخرى بدأ الحديث عنها فى الولايات المتحدة مؤخراً بصوت عال.. ليس استناداً هذه المرة إلى دستور وتعديلاته.. أو إلى حقوق إنسان أو حقوق مجتمعات.. وإنما استناداً إلى إنجيل وآيات وأحكام تجىء من عند الله.. وفى تلك الانتخابات الأخيرة.. التى كان من المفترض أن يخوضها عمدة نيويورك السابق.. رودى جوليانى.. كانت هناك آراء كثيرة أشارت إلى أن الرجل يملك الكاريزما الخاصة بالرئاسة.. ويملك القدرة الفائقة على التعامل مع الإعلام.. ويملك المال ويعرف مصادر يأتى منها الكثير من المال.. إلا أن المشكلة الوحيدة هى ليبراليته ودعاواه المتحررة التى خصمت بالفعل من أرصدته تعاطف وتأييد المتدينين الذين يزداد عددهم يوما بعد يوم.. فاضطر الرجل صاحب القوة والخبرة والتجربة والمال للانزواء بعيدا.
أما ألمانيا.. والتى انتقد مستشارها السابق شرودر.. هذا المد الدينى الأمريكى الواصل حتى مكتب رئيس سابق للولايات المتحدة الأمريكية.. فهى الأخرى تعيش نفس المد ونفس الاحتياج للدين.. وإن كان بصورة مختلفة ولدواع أخرى لا تشبه تلك التى فى الناحية الأخرى من المحيط.. ففى ألمانيا.. وفى سنين كثيرة ماضية.. كان الدين فى كل يوم يزداد غيابا وتراجعا.. ففى مدينة مانهايم كانت هناك مائة وثمانون راهبة أصبحن الآن ثمانى فقط.. وفى مدينة كولون.. أقيمت خلال المائة سنة الماضية سبع كنائس كاثوليكية بقيت منها أربع فقط تمارس نشاطها وتوقفت ثلاث عن العمل.. وتم إغلاق عشرين كنيسة فى برلين وسبع عشرة كنيسة فى هامبورج.. كل ذلك بسبب ندرة المصلين والذين فى حاجة للرب وللدين وللكنيسة.. ولكنها صورة بدأت تتغير الآن.. ليس بمعنى أن الألمان بدأوا يعودون يفتحون كنائسهم المغلقة.. وإنما لأنهم بدأوا يعودون إلى الله.. فمن ناحية كان المد الإسلامى المتزايد هناك والمساجد الجديدة التى تبنى ويبدأ نشاطها.. يغرى ويشجع ويحرض كاثوليك وبروتستانت على التفكير من جديد فى الدين.. وبهذا المعيار يمكن الالتفات لقضية مروة التى قتلها التطرف.. فلو كانت مروة فى ألمانيا قبل عشرين سنة.. ما كانت لتستفز أى أحد بحجابها أو التزامها وإسلامها وتدينها.. أما الآن.. فالأمر يختلف تماما.. فالكل أصبح يفكر فى الدين.. مهموما به أو خائفا عليه أو خائفا منه.. وبالتأكيد هناك إحباط من حياة تحفل بالسباق والصراعات وتفتقد سلام الروح.. وحين أقيمت نهائيات كأس العالم الأخيرة فى ألمانيا.. لم يكن منتقدا أن يعلو صوت الكنيسة البروتستانتية لأول مرة منذ زمن طويل داعياً الوقوف بحزم أمام أكثر من أربعين ألف عاهرة يمارسن نشاطهن وتجارتهن مع الألمان وجمهور المونديال.. ولم يكن اعتراض الكنيسة مبعثه حقوق الإنسان أو الدفاع عن مكانة المرأة وصورتها.. لا قوانين واتفاقيات تجريم الاتجار بالبشر أو انتهاك آدمية النساء والأطفال.. وإنما كان الدين هو المحرض وهو الآمر.. أى باختصار شديد.. لأن الدعارة حرام وخطيئة وملعون كل من يمارسها أو تمارسها.
وأشير هنا إلى عبارة ساخرة قالها عالم اللاهوت الكاثوليكى.. جورج ويجل.. يؤكد فيها أن الإنسان الأوروبى نجح فى الماضى فى إقناع نفسه بأنه لكى يصبح عصرياً وحراً.. فلابد أن يكون علمانياً وراديكالياً.. إلا أن الصورة تختلف الآن وأصبح بإمكان الأوروبى.. أن يكون حرا وعصريا ومتمدنا.. وأن يكون متدينا أيضا.. بنفس العمق والحجم وفى الوقت نفسه وبدون أية تناقضات أو عوائق وموانع.
وإذا كان المتدينون قد خسروا معارك سابقة كثيرة فى أوروبا.. إلا أنهم نجحوا مؤخراً فى أن يضيفوا إلى الدستور الأوروبى مادة أصبحت تحمل رقم 51 تسمح لمختلف كنائس أوروبا بالحوار مع الاتحاد الأوروبى.. ليبقى الدين موجوداً وحاضراً فى أية اجتماعات أو مناقشات.. وبدأت كنائس أوروبا تتحدث بصوت عال عن الشواذ والإجهاض وأمور كثيرة كانت عادية فى الماضى لكنها أصبحت مؤخراً أموراً لا يرضى بها أو عنها الرب.
باختصار.. ليس صحيحاً على الإطلاق أننا المسلمون المتخلفون المشغولون بالدين ودائمو الحديث عنه.. فالولايات المتحدة بدأت تتحدث وتهتم.. أوروبا كلها بدأت تتغير.. تغيير بدأ مؤخراً بعد اختفاء الدين وانزوائه فى أوروبا لما يزيد على الثلاثمائة عام.
الآن يتغير كل شىء.. الآن يعود الجميع إلى الدين.. إلا بعض الناس فى مصر الذين لا يزالون يؤمنون بأنه لا خلاص ولا تقدم ولا رقى أو تحضر أو انتصار إلا بالقضاء على الدين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة