ياسر أيوب

مصائد الفئران التى تتعثر داخل الحوارى وتتمايل فوق الكبارى

الميكروباص.. قضية أمن دولة

الجمعة، 20 فبراير 2009 01:36 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مليونان ونصف المليون مصرى.. يعتمدون فى تنقلاتهم على وسيلة مواصلات عشوائية.. ليس لها صاحب.. ولا يحكمها نظام أو قانون واضح ودائم.

قد لا يكون معظم من يقرأون «اليوم السابع» من مستخدمى الميكروباص.. ولكن هذا لا يعنى أنه ليس من المهم أو الضرورى أن أفتح مثل هذا الملف الشائك على صفحات «اليوم السابع».. لا أفتحه وكأننى فى لحظة عبث مهنية قررت أن أحيل مستخدمى الميكروباص إلى فرجة سواء كانت بقصد متعة المشاهدة فى قاعات السينما أو بهجة ومرح الفرجة فى السيرك.. ولا هو قصدى أن أحيلهم إلى فئران تجارب أتنقل بهم من معامل السياسة إلى الاقتصاد إلى الشئون والأحوال الاجتماعية.. ولا أفتحه أيضا بحثا عن عناوين زاعقة وحكايات صاخبة.. وإنما أريد حقا أن أتوقف أمام ظاهرة اختلطت فيها السياسة بالتاريخ بالفوضى.. الاقتصاد بالقانون بالحياة كل يوم.. الأرض وشوارعها بالناس ووجوهها.. ظاهرة لا يلتفت إليها الكثيرون ولا يمنحونها الاهتمام الكافى الجدير بها رغم أنها تضم فى جنباتها تلخيصا لكل هموم مصر ومشكلاتها وأوجاعها.

وقد فكرت أن أبدأ كتابتى عن الميكروباص.. تماما كما بدأها جيفرى فليشمان.. الصحفى بجريدة لوس أنجلوس تايمز الأمريكية.. حين جاء إلى القاهرة العام الماضى ليكتب تحقيقا لجريدته وللقارئ الأمريكى وللمسئول الأمريكى أيضا عن ظاهرة مصرية مهمة وملفتة للانتباه والدراسة اسمها الميكروباص.. وقلت لنفسى أنه ليس عيبا أن أقتدى بجيفرى فأنزل من المكتب وأمشى فى الشوارع أطارد سيارات الميكروباص وأجلس بجوار السائقين فى سياراتهم أو معهم على الأرصفة لأقاسمهم تناول القهوة والشاى فى أوقات راحاتهم.. ولكننى لم أقبل هذه البداية على طريقة جيفرى فليشمان.. فقد أحسست أنها لا تناسبنى.. فلا أنا غريب عن هذا العالم ولا أنا فى حاجة لمغامرات نهارية لأعرف أحوال سائق الميكروباص وركابها.. ولا أنا صحفى أمريكى.. مجتهد ومختلف ومبدع.. قرر أن يرى بلدا بأكمله من نافذة سيارة ميكروباص.. خاصة أن حكومته كانت قد سبقت وأصدرت تحذيرات رسمية لمواطنيها القادمين إلى مصر من التحرش الجنسى ومن سيارات الميكروباص.. وبدلا من ذلك.. فكرت واجتهدت واخترت بداية أخرى للكتابة وجدتها أصلح وأكثر مناسبة لأى حديث جاد وحقيقى عن الميكروباص وعالمه وقضيته وظاهرته وملفاته.. فكان قرارى أن أبدأ بما جرى فى محافظة الجيزة يوم الثامن والعشرين من شهر يناير الماضى حين قام سائقو الميكروباص فى المحافظة بإضراب توقفت فيه سياراتهم تماما عن العمل احتجاجا على ترصد رجال المرور لسيارات الميكروباص ومطاردتهم بالمخالفات الفورية ومطالبتهم بالإفراج عن كل زملائهم الذين تم احتجازهم بمختلف أقسام الشرطة بالمحافظة بعد أن عجزوا عن سداد هذه المخالفات الفورية. الجيزة عاشت يوما بدون سيارات ميكروباص.. وهذه بالضبط هى البداية التى رأيتها مناسبة لأى حديث عن الميكروباص فى مصر.. تخيلوا أنها ليست الجيزة فقط.. وإنما مصر كلها.. تخيلوا مصر كلها بدون سيارات ميكروباص.. واسمحوا لى أن أساعدكم.. فألفت انتباهكم إلى أن سيارات الميكروباص فى مصر كلها تنقل مليونين ونصف المليون مواطن مصرى كل يوم.. أى أنه لو توقفت سيارات الميكروباص.. فجأة.. عن العمل.. فهذا قد يعنى بيوتا كثيرة فقدت موارد رزقها وقد يعنى نزلاء جددا قادمين إلى سجون الإحباط واليأس والاكتئاب.. إلا أنه بالتأكيد سيعنى أن هناك مليونين ونصف المليون مواطن لن يجدوا وسيلة تنقلهم إلى أعمالهم أو بيوتهم أو جامعاتهم ومعاهدهم ومدارسهم.. وأرجوكم أن تنتبهوا للرقم وما يعنيه مثل هذا الرقم المزعج والمخيف.. وقد يسأل أحد لماذا هو رقم مزعج ومخيف.. والإجابة.. باختصار وبساطة.. أن هناك فى مصر مليونين ونصف المليون مواطن يعتمدون فى تنقلاتهم على وسيلة مواصلات عشوائية.. ليس لها صاحب.. وليس يحكمها نظام أو قانون واضح ودائم.. وإذا كان الإضراب هو أحد الاحتجاجات المتعارف عليها عالميا والتى ممكن جدا أن تحدث فى أى بلد فى الدنيا ومن إضراب قائدى الطيارات وملاحيها إلى إضراب سائقى القطارات أو سيارات النقل العام.. فإن الفارق بين كل هذه الإضرابات وبين إضراب سائقى الميكروباص فى الجيزة هو أن إضراب الجيزة كان عشوائيا بأكثر مما يجب.. انفعاليا بأكثر مما تسمح الظروف والأحوال بتكراره.. ولكنه قد يتكرر.. أو سوف يتكرر.. أو أن الحقيقة الثابتة هى أنه تكرر بالفعل.. فلم يكن إضراب سائقى الميكروباص فى الجيزة هو الأول من نوعه.. فقد سبقه إضراب مماثل شهدته مدينة المحلة الكبرى فى عام 2007 ولنفس السبب.. الاحتجاج على ما تفرضه عليهم إدارة المرور من غرامات ومخالفات وقيل وقتها أن السبب الحقيقى للإضراب كان الاحتجاج على قيام بعض رجال المرور بفرض إتاوات على سائقى الميكروباص لابد أن يدفعوها وإلا تمت مطاردتهم بأحكام القانون ومخالفاته.. وقبل المحلة.. كانت هناك إضرابات مماثلة فى الإسكندرية والدقهلية والمنوفية.. وهو ما يعنى أن دعوتى لتخيل مصر كلها فى يوم ما بدون سيارات ميكروباص.. ليس فرضا خياليا أو مستحيلا.. وإنما طرح مؤلم قد نستيقظ يوما لنكتشف أنه أصبح واقعا وحقيقة.

والآن.. ماذا يعنى كل ذلك.. وهل هذا الرقم.. والتساؤل.. اللذان قررت أن أبدأ بهما هذه الكتابة.. كافيان لأن يدرك الجميع أن الميكروباص بات يستدعى منا الاهتمام بما هو أكثر من تعليقات سخيفة ومتكررة حول ثقافة الميكروباص.. وأغانى الميكروباص.. وجرائم الميكروباص.. وأمام تلك الكتابات والتعليقات لا أجدنى إلا غاضبا ومسكونا بالدهشة والاستفزاز من صحافة تجيد تقسيم المجتمع إلى نحن وهم.. نحن نشاهد هم.. نحن نستمتع بما يعانيه هم.. نحن نتفرج على حياتهم هم وكيف يعيشونها.. وكأننا أصبحنا بلدين وفريقين ووطنين.. وطن الصحافة والفضائيات والسيارات الخاصة والتفكير والسينما والغناء.. ووطن الزحام والفوضى وسيارات الميكروباص.. ولأننى لا أنوى مسايرة كل من كتب قبلى عن الميكروباص بهذه النظرة أو هذا الفكر.. فقد قررت أن أكتب عما لم يهتم به أحد قبلى.. وقررت أيضا أن أبدأ الحكاية من أولها.. فالأصل فى المجتمعات والشعوب أن كل حكومة ملتزمة بالمواصلات وتأمينها كأحد الواجبات الأساسية والحياتية والضرورية.. وبصرف النظر عما إذا كانت الحكومة ستتولى تأمين هذه الخدمة بنفسها وبشكل مباشر أو ستعهد بها إلى قطاع خاص ولكن تحت إشراف دائم للحكومة برقابتها الصارمة ضمانا لدوام الخدمة التى تبقى دائما هى أحد واجبات الحكومة.. إلا أنه فى مصر.. لا تشعر الحكومة أبدا بأن تنقلات المواطنين هى أحد واجباتها الأساسية بل وإحدى الوسائل المباشرة لتقييم أدائها.. وقد لا تكون الحكومة ملزمة بتوفير فرصة عمل لكل مواطن.. ولكنها ملزمة تماما بوسيلة مواصلات آمنة ينتقل بها كل مواطن ليذهب إلى العمل أو للدراسة أو حتى للنزهة والترفيه.. وإذا استعنت بالله وقررت أن تناقش الحكومة ووزراءها فى هذا الأمر.. ستجد الرد الرسمى جاهزا وحاضرا.. وهو أن الحكومة المصرية لا تزال تنفق سنويا قرابة الخمسين مليار جنيه على قطاع المواصلات بمختلف أشكالها.. وتبقى المشكلة أن ضخامة الرقم أبدا لا تعنى أن الحكومة قد أدت واجبها وحافظت على التزامها تجاه كل مواطن.. فلم تستيقظ مصر فى يوم وليلة لتكتشف أن فيها مليونين ونصف المليون مواطن يستخدمون سيارات الميكروباص فى تنقلاتهم.. وإنما بدأت الحكاية يوما وراء يوم.. يعجز القطاع الحكومى عن تلبية حاجة المواطنين الدائمة للتنقل.. ولا تعترف الحكومة بهذا العجز.. وتتفرغ صحافة السبعينيات للسخرية من مشهد أوتوبيسات النقل العام وما يجرى فيها وانتهاك آدمية المصريين داخلها.. وتنتهى النكتة ليبقى الواقع.. ويبقى الاحتياج.. فيأتى اختراع الميكروباص.. وتتظاهر الحكومة بأنها لا تنتبه لما يجرى.. وتتوالى الأعوام.. وتتزايد أعداد الناس التى تريد التنقل بينما تقل وسائل النقل الحكومية وتزداد تهالكا.. فيزداد عدد سيارات الميكروباص التى تجرى فى شوارع القاهرة وكل مدينة فى مصر.. وتبقى الحكومة تتظاهر بأنها لا تنتبه لما يجرى.. وكأن ما يجرى ليس يعنيها.. وكأن كل سيارة ميكروباص ليست فى حقيقتها دليلا على فشل حكومى فاضح وفادح.. فقد كان من الممكن أن تبادر الحكومة فى وقت مناسب لتطرح للبيع خطوطا واضحة ومحددة للمواصلات العامة.. وكان من الممكن إعداد مشروع واضح ومكتمل المعالم وطرحه فى مزايدة علنية بضوابط وشروط وضمانات حكومية.. سواء فى القاهرة أو فى مختلف المدن المصرية أو حتى على الطرقات بين كل المدن فى مصر.. ولعله استطراد ليس خارج السياق أن نتوقف قليلا عند مترو الأنفاق والذى فات على مهندسيه بعد بالغ الأهمية والبساطة فى وقت واحد.. وهو أن هذا المترو لكى يؤدى الغرض من وجوده فهو لابد أن يتحول إلى وسيلة يستغنى بها أصحاب السيارات الخاصة عن سياراتهم طالما أن الشوارع ستبقى على حالها بنفس ضيقها وتعرجها.. وبالتالى كان من الضرورى أن تكون البداية هى أحياء المهندسين والهرم ومصر الجديدة ومدينة نصر.. لكن نتيجة هوى اشتراكى مؤقت وزائف تقرر أن تكون البداية هى المرج وحلوان.. فكانت النتيجة أن بدأ المترو يجرى دون أن يقلل ولو قليلا صخب الشوارع وارتباك الميادين.. وكأن الدولة أصرت على أن أى وسيلة مواصلات حكومية لا يمكن أن تكون صالحة للمقتدرين وليس بالضرورة أن تبقى مقصورة على الفقراء والبسطاء وحدهم.. وربما تكون الحكومة فى مصر بعيدة النظر.. ولديها خبراء أدركوا أنه لو مدوا خطوط مترو الأنفاق ليصبح بديلا عن السيارات الخاصة وبالتالى سيستخدمه مالكو هذه السيارات وهم غالبا صوتهم أعلى من صوت الفقراء والبسطاء.. مما يعنى أنهم لن يسكتوا عن مثل هذا التدهور الحاصل فى مترو الأنفاق الذى كان منضبطا ومثاليا ورائعا. أعود مرة أخرى للميكروباص.. الإمبراطورية التى لا تخجل الحكومة من الكذب والادعاء بأنها فوجئت بوجودها.. ولا أزال أذكر تصريحا رائعا لى.. ومخجلا لهم.. قاله فى شهر يناير عام 2008 اللواء أحمد زكى عابدين.. محافظ بنى سويف.. حين اعترف بأن كل أجهزة المحافظة بمسئوليها وضباطها فشلوا تماما فى إلزام سائقى الميكروباص فى المحافظة بتعريفة محددة للركوب.. فالحكومة قبل هذا التصريح المزعج.. كانت تتظاهر بأنها لا تعرف.. ولكنها بعد هذا التصريح أصبحت تعترف بأنها لا تقدر.. وإذا كانت الحكومة فى بنى سويف عجزت عن فرض تعريفة محددة للميكروباص.. فإن الحكومة فوق أرض مصر كلها باتت عاجزة عن التصدى لظاهرة الموت على الأسفلت.. وحوادث الطرق التى باتت سيارات الميكروباص تمثل سبعين بالمائة منها.. ولم يعد هناك من باستطاعته التصدى لعشوائية الطرق التى بدأتها سيارات الميكروباص مستغلة سلبية الناس واحتياجاتهم أو سلبية رجال الشرطة وفساد بعضهم.. وتحولت سيارات الميكروباص فى أحيان كثيرة إلى جهاز إعلام عشوائى لا رقابة للحكومة عليه أو سيطرة.. من غناء هابط إلى دعوات صريحة وتحريض علنى للعنف والتطرف.. وبمناسبة الإعلام.. قد يكون مناسبا التوقف عند الميكروباص فى السينما.. ليس فقط لأهمية الميكروباص.. وإنما لاقتناعى الشخصى بأن السينما فى أى أمة.. هى ذاكرة هذه الأمة.. ولم تقدم السينما قضية الميكروباص بشكل مباشر إلا فى فيلمين فقط.. الأول كان عفاريت الأسفلت للممثل الرائع محمود حميدة.. والثانى كان فيلم حسن طيارة للممثل الاستثنائى خالد النبوى.. فى الأول كان سائقو الميكروباص هم الهامشيين الذين لا يقيمون أى اعتبار لفضيلة أو أخلاق أو نظام أو قانون.. وفى الثانى كانت حكاية خريج الحقوق الذى لا يجد أية وظيفة إلا سائق ميكروباص.. وكنت أتمنى لو التفتت السينما المصرية إلى بثينة الغزالى.. أول سائقة ميكروباص فى مصر.. والتى بدأت هذه المهنة منذ عشرين عاما وتقود سيارتها على الطريق السريع بين القاهرة وطنطا.

وبعيدا عن السينما.. تبقى أشهر القضايا هى تلك الخاصة بتعذيب سائق الميكروباص.. عماد الكبير.. والذى تم تصوير تعذيبه فى فيلم تداولته مصر كلها عبر أجهزة التليفونات المحمولة.. وانتهت القضية دون أن نلتفت لأحوال سائقى الميكروباص وحياتهم وواقعهم وقضاياهم.. وهذا العالم الخاص حيث الاصطباحة هى الإتاوة التى لابد من دفعها لكبير الموقف أو سيادة اللواء على حد تعبير السائقين أنفسهم.

وإذا كنت رفضت أن أبدأ الكتابة على طريقة اللوس أنجلوس تايمز.. فلابد من أن أنتهى بما انتهت إليه الصحيفة الأمريكية الكبيرة.. وأقول مثلما قالت إن سيارات الميكروباص فى القاهرة قد أصبحت مصائد فئران.. عربات مزدحمة متهالكة تتعثر داخل الحوارى وتتمايل فوق الكبارى وأصبحت سمة لمدينة تعج بالفقر واليأس والهموم.

لمعلوماتك...
12 مليون راكب يومياً لوسائل موصلات مصر
14 هو عدد ركاب معظم ميكروباصات مصر









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة