كما توقعت .. بدأت أخبار حريق الشورى تتراجع شيئاً فشىء! وبالتدريج سوف ينتقل الخبر من صدر الصفحات الأولى إلى الصفحات الداخلية، على عمود أو عمودين فى صفحات الحوادث، وسوف "يلبس" القضية مسئول الدفاع المدنى أومهندس الصيانة، فى حين أن المتهم الحقيقى، هو نظام حوَّلَ الشعب إلى مجموعة من الشامتين فى حريق برلمانه، ورمز حريته وتحرره.
حريق الشورى، يدق أجراس الإنذار، ويلقى الضوء على قضية أكثر خطورة تحدث منذ سنوات، لكنها تفاقمت فى آخر عامين، وهى تدمير ثروة مصر العقارية من الفلل والقصور التاريخية، وهى بالآلاف، وتنتمى للقرنين التاسع عشر والعشرين .. ثروة فى التصميم وفى أسلوب البناء، وفيما تتضمنه من النقوش والطرز، التى لم تعد موجودة بيننا اليوم، بعد أن غابت من حياتنا كل معانى الجمال، رغم وجود جهاز التنسيق الحضارى.
مبنى الشورى الذى احترق، ينتمى إلى عمارة القاهرة الباريسية، وهناك العشرات من هذه المبانى تحتلها جهات حكومية ووزارات وأجهزة المحليات، وإذا خرجت خارج القاهرة ستكتشف أن فى مصر الآلاف من المبانى التاريخية، والأثرية، وذات الطابع التراثى، فى الإسكندرية، وفى العديد من محافظات الوجه البحرى، وأيضاً فى الصعيد، وتحديداً فى المنيا وأسيوط. هذه المبانى تتعرض لتدمير منظم فى السنوات الأخيرة، أصحابها اكتشفوا أنهم يمتلكون كنوزاً، فى أماكن متميزة، وفى عصر علا فيه صوت المادة، فبعض هذه المبانى تجاوزت قيمتها - كأرض - عدة ملايين، فى الوقت الذى قد لايجد فيه الورثة الذين آل إليهم المبنى عدة آلاف ينفقونها على صيانته.
قبل سنوات .. وأثناء وجود جكومة الجنزوى، أعلن الرجل أنه لن يتم هدم تاريخ مصر، وأصدر بصفته "الحاكم العسكرى" قراراً بحظر هدم القصور والفلل، والمبانى التاريخية، وقامت الدنيا ولم تقعد .. تحايلات، وقضايا على الحكومة، وبالتدريج خففت الحكومة التى جاءت بعد ذلك قبضتها، وكانت النتيجة اختفاء 40 % من هذه الثروة، واحتلت مكانها الأبراج الخرسانية .. قبيحة الشكل والمضمون، ولاتتناسب عمارتها مع محيطها العام، ومن ينظر إلى حى مثل "الدقى" الذى كان عبارة عن فلل من دورين، والشوراع تغطيها الأشجار، سوف يجد أن كل هذا قد اختفى بقدرة قادر، ولم يعد هناك إلا النذر اليسير الذى سيأتى عليه الدور لامحالة.
نعود للب القضية، الحكومة تريد الحفاظ على الثروة العقارية، ولكنها تقول ذلك "من ورا قلبها"، فليس من المنطق أن نمنع شخصاً فى يده كنز بالملايين من التصرف فيه، ونقول له عليك أن تبقى قيماً عليه، حفاظاً على الذوق العام، وفى نفس الوقت لايمكن نتركه يدمره.
هذه المعادلة لن تكون صعبة إذا تدخلت الحكومة كمشترى لهذه العقارات بسعر السوق، لأنها مهما دفعت فسيبقى أقل من ضياع هذه الثروة، التى لاتقل فى روعتها وجمالها عن الموجودة فى كثير من العواصم الأوروبية، لكن الفارق الذى بيننا وبينهم .. أنهم حافظوا على مالديهم، وأصبح من المزايا النسبية لديهم، وفى هذا الإطار يمكن للحكومة أن تحول بعض هذ الأماكن إلى استخدامات سياحية تدر عليها عائداً لا حرج فيه، ولكن وفق ضوابط صارمة، تحافظ على المكان، وتتفق مع طبيعته.
ماعدا ذلك سنبقى فى حلقة مفرغة تنتهى بنا إلى ضياع الثروة العقارية، فقد تبين أن بعض أصحاب هذه العقارات المتميزة التى تستوجب الحفاظ عليها للأجيال القادمة، هم أنفسهم الذين يقومون بتغيير النقوش والحليات، ليخرجوها من قائمة المبانى التاريخية.
أرجو أن نستوعب الدرس سريعاً قبل فوات الآوان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة