حازم حسين

عن المقاومة وعلى أى ضفة تقف.. سردية فلسطين ومناعتها بين الضعف والإضعاف

الخميس، 04 سبتمبر 2025 02:00 م


نحو 700 يوم مرت على العدوان وأعمال الإبادة الإسرائيلية فى القطاع.. عدّاد الأيام يتسارع، وتتضخم قوائم الضحايا، والخيارات محدودة أو شبه معدومة.
غزة مشدودة بسلاسل حديدية ساخنة بين الاحتلال والفصائل، مصيرها مقيد إلى حرب تبدو بلا نهاية، والحرب مربوطة فى رجل طائر لا يتوقف عن الحومان.
لا رصاصة فى البندقية الفلسطينية لاصطياد الطير الجارح، ولا فزّاعة حقل تنهاه عن التقاط الغزيين كما تُلتَقط الحبوب من البيادر. يحصد نتنياهو بمنجل صدئ، يجمع ويطمع ولا يشبع، ويُبعد الحماسيون الشوك عن طريقه بمكرمة لا تتناسب مع حجم المأساة وتداعياتها الخطرة.

ما من غرام بالنكاية والتعريض بالحركة ورُعاتها، ولا فائض طاقة أو رفاهية لنُبدده على اللوم وتوزيع الاتهامات؛ لكنها المداخل الوجوبية لاستيعاب الظرف الثقيل، والإحاطة بالفاجعة من كل جوانبها؛ ليتيسر الاشتغال على تفكيكها وتخليق المنافذ الممكنة للنجاة أو الهرب.

وليس الإنسان حيوانا عاقلا؛ إلا لأنه مُبتلى بالوعى والذاكرة، وقادر على استخلاص الدروس وترقية الخبرات؛ فلا يدخل المصيدة نفسها مرة بعد أخرى، كما تفعل الفئران من منشأ وجودها وستظل إلى مُنتهاه.

حلقة مغلقة لا بديل عن كسرها، وإن لم يتيسر استعدال منحناها ليصير حربة تُرفع فى وجه العدو؛ فأقله لن تظل قيدا مُحكما على القضية، أو سجنا يختنق فيه المحملون بهمومها وأوزارها دون خطيئة منهم أو اختيار.

وُلِد قدر الفلسطينيين مع ولادة إسرائيل، وسيبقى ملازما لهم إلى محطة فنائها أو ترويض شعبها المتوحش، وإقناعه بضرورة أن يصير شعبا لا عصابة، وأن يؤنسن علاقته بالآخر القريب والبعيد فى دولة طبيعية، وعلى ما تقضى به أشراط التعايش والمساكنة العادلة.

زُرِع الكيان عنوة بين النهر والبحر، وفرضوه على فلسطين كالوشم فى اللحم الحى؛ فتجلّت المقاومة كاستجابة المناعة البشرية عندما يطرأ اعتلال على الجسم أو يخالطه داء، أى كانت إجبارا لا اختيارا، ومسارا إلزاميا للدفاع عن الحق فى الحياة.

ويجب عليها ألا تمل أو تكل وتتوقف عن العمل؛ ولو لم يكن فاعلا. وما البحث فيها عن المشروعية والبديل، بل عن الفاعلية والإمكان، ومراقبة القياسات الحيوية ساعة بساعة، لأجل الإبقاء على كفاءتها الكاملة، وتعويض ما يطرأ عليها من وهن أو قصور بالعقاقير والمحفزات، وبما يقوّيها كلما كان ذلك ممكنا، ولا يخليها بمفردها فى معركة غير متكافئة.

المقاومة بالماهية شرط وجود، وبالوظيفة محاولة دائمة للشفاء، أو مُعايشة محسوبة ومتشبثة بالحياة فى وجه المرض والموت. من واجبها أن تُبقى الجسد حيًّا نابضا، وألا تتورّط فى الأمراض المناعية التى تضطرّه لمهاجمة نفسه، أو تُعين غزو الخارج على هشاشة الداخل. أى أنها سعى دائم لاستنزاف الوافد الشرير؛ لا لاستنفاره بالذرائع أو تحفيزه كلما طال عضوًا باختصام بقيّة الأعضاء.

ولا يغيب عن الطبيب الحاذق أنها ليست فكرة صُلبة دائمًا، وقد يحدثُ أن تضعُف عرضًا، أو يُقرّر المُختصّون إضعافها بالقصد. الجسم المعطوب يُصلحه تبديل عضو بآخر؛ لكن المناعة المُتيقّظة تُعرّف نفسها بنفسها، وتفرض سياجًا ناريًّا على المُداواة بتلك الطريقة الجذرية الحاسمة، وعندها ما من حلٍّ إلا بتقويضها، أو حبسها فى قُمقم المُثبّطات.

عندما احتُلت سيناء فى يونيو 1967، كانت عمليات رأس العش وإيلات وغيرهما مقاومةً لا حربًا، وكذلك معارك الاستنزاف، وحتى القبول بمبادرة روجرز وما ورائها من استعداد وترصيص لحائط الصواريخ. وإلى ما بعد أكتوبر المجيدة؛ كانت المفاوضات عملاً مُقاومًا أيضًا؛ بل واتفاقية السلام نفسها فى أواخر السبعينيات.

والقياس مع الفارق طبعًا؛ لكن الفكرة واحدة. فلسطين ليست دولةً مؤطَّرة بجغرافيا وإدارة طبيعية ونسيج اجتماعى واحد. أُعِيدت قهرًا إلى مرحلة بدائية للغاية، تُفتِّش فيها عن ذاتها، وتتلمّس مفرداتها المُتشظّية داخل الأرض المحتلة وخارجها؛ إنما يقع عليها ما يقعُ على الدول كاملة الأهلية، لجهة إلزامية أن تتجسّد أوّلاً فى وعى أبنائها على الأقل؛ ليكون بمقدورهم أن يُجسّدوها على الجغرافيا السليبة.

ثورة البراق فى أواخر العشرينيات، والثورة العربية الكبرى بُعيد منتصف الثلاثينيات، وحربا النكبة والنكسة، وارتحالات القوى الفلسطينية إلى الشتات، وفيما بين مراكزه المُلتهبة من عمّان إلى بيروت، كلها كانت مُقاومات أصابت وأخطأت، وتعثّرت بأكثر مِمَّا انتظمت على خط واضح؛ لكنها ما قصّرت فى الكَر والفرّ، ولا افتتحت مواجهة إلا لضرورة، ولا أقامت فيها من دون طائل، أو بعدما يتكشّف لها ثِقَل الأعباء المترتبة على المُغامرة.

نازحو زمن التأسيس كانوا ضعفاء ومُضطرّين؛ لكن الباقين من بعدهم استوعبوا الدرس، فما تورّطوا ورطتهم ولا كرّروا التجربة نفسها. لهذا ما تزال حصّة إسرائيل من التقسيم مُزدحمة بما يفوق مليونين من أحفاد الراحلين، وثلاثة أضعافهم فى الضفة الغربية وقطاع غزّة، وتتكفّل البيولوجيا بتعويض ما تنزحه الإبادات المتوالية، وفيما يمكُر الصهاينة؛ فإن مكر الديموغرافيا أشدّ.

أوسلو كانت فصلاً من أهم فصول المقاومة على الإطلاق؛ ليس لأنها حققت ما لم يُحققه السلاح وإن استندت عليه، ولا لأنها منحت مُنظمة التحرير صفة تمثيلية واعترافًا واسعا بالشرعية؛ حتى من العدو نفسه، ولكن لأنها أعادت مئات الآلاف فى أول موجة عكسية بدت مستحيلة طوال العقود السابقة عليها، وثبّتت ما تحتار تل أبيب فى خلخته اليوم، ولعبت دورًا لا يُمكن إنكاره فى تصويب خيارات العرب الماضوية بأثر رجعى، والاعتذار عمَّا كان من نزق واستكبار فى زمن التقسيم.

وليس القصد مُطلقًا إقامة الحجّة على العواصم الضئيلة المستقلّة وقتها، أو محاكمة الماضى بقوانين الحاضر، وبوعينا النكبوى الغارق فى الدماء والأشلاء اليوم؛ إنما تبيان أن ما ضاع مرّة لا ينبغى أن يكون عُرضة للضياع فى كل مرّة، وما يُعرَف عواره لا يُستساغ الاصطبار على إصلاحه وتقويم المائل فيه. ناهيك عن الانقلاب عليه بعدما يُلوّح بالبشارة، والعودة إلى فاتحة المأساة؛ من دون خبراتها المحفورة فى الأرواح والأبدان بسكاكين فولاذية حارقة.

وإذا كانت الحرب من صُوَر السياسة، كما يقول المُنظِّر البروسىّ الأشهر كارل فون كلاوزفيز؛ فالدبلوماسية صورة عن المقاومة أيضًا. هذا إن شئنا الاستبصار والنظر إلى الأعماق، وعدم اختزال المفردة اللغوية فى إيحاءاتها الظاهرية الخشنة، وتجريدها من مكنونها الوجودىّ الباحث عن النصر بالتدرج وتراكم النقاط، والعارف بأنها لا سبيل إليه قبل تحقيق الاتزان، واستعادة التكافؤ والنديّة الغائبة.

كان الفلسطينيون وحدهم ضحايا خطة الاصطناع، وهدفًا يُتوَصَّل منه إلى تثبيت قدم صهيونية فى تُربة فلسطين. أرضهم مطمع وأجسادهم منصّة للاستعراض والترويع، والقتل آلة حصاد تسير فى اتجاه واحد. ربما لجأ الصهاينة أحيانًا إلى إنفاذ القوّة فيما بينهم، ونفّذوا عمليات إرهابية ضد يهود الخارج لاستجلابهم إلى أرض الميعاد؛ لكنهم حالما وقفوا على ناصية الحلم، استعادوا اللُحمة وعادوا إلى غريزة الولوغ فى دماء الأغيار حصرًا.

المُتغيّر الوحيد من بعدها؛ عندما حرّض اليمين المتطرف على رابين بعد جولتى مدريد وأسلو، وأنهى لُعبته بأن أرداه قتيلاً فى ميدان ملوك إسرائيل بقلب تل أبيب. كانت الجريمة المُعادة من قصة قابيل وهابيل تجسيدًا لقوّة السياسة، وتعبيرًا عن فاعلية الورقة التى حُرِم الفلسطينيون منها طويلاً، وكان عليهم ألا يُفرّطوا فيها عندما تمكّنوا منها صدفةً، أو فى غفلة من رؤوس الصهيونية الحامية.

وإذا كان اغتيال رابين دفاعًا عن وجه الدولة العبرية المُلطّخ بالدم أصلاً، وفرارًا من محاولات غسل السُّمعة أو إبراء الذمّة؛ فإن استدعاء صيغة قتل الأخ لأخيه على الجانب الفلسطينى لم يكُن لمصلحة وطنية ظاهرة، ولا للذود عن أصول راسخة يُراد تبديدها؛ إنما أحدثته الأيديولوجيا الأصولية فى وعى الضحايا؛ فانتخبت منهم فريقًا يتمثّل صورة الجلاد، ويواصل إمضاء سلسلة القهر على الآخرين.

كان انقلاب حماس فى غزّة انقلابا على مسيرة النضال الطويلة لستة عقود سابقة. تضحية بالتراكُم الخلّاق، وعودة اختيارية إلى الصفر من دون منطق أو ضرورة. والأخطر أنها كانت انغماسًا بكامل الجسم والذهن فى أجندة العدو وسرديّته، وإعانة له على البيئة الفلسطينية بقسمتها وتفتيتها، وعلى الرواية الواحدة لقضية إنسانية وأخلاقية عادلة، بتفريعها والتحوّل بها إلى روايات شتّى، متضادّة ومتضاربة، وتتناحر فيما بينها بأكثر مِمَّا تُوجّه جماع طاقتها للغريم المشترك.

جاءت المحنة ثم تفجّر كل شىء من بعدها، المقاومة الشعبية العارية من التنظيم، ثم تمثّلاتها النظامية، وانتقالاتها من ظلِّ السلاح إلى برودة غُرف التفاوض، وصولاً للسلطة وما تنطوى عليه من مغانم خفيّة ومغارم ظاهرة. أى أن الجُرح سابق على الهُوية، وعلى الفصائل بتلاوينها وعقائدها وامتداداتها فوق الوطنية. وحماس نفسها طرأت على الساحة بعد أربعة عقود، ومن رحم الانتفاضة الأولى التى جمعت غلّة المقاومين الأوائل فى سلّة الغضب الانفجارى غير المدفوع بحركة أو المُنضوى تحت راية فصيل.

اتُّخذت الانتخابات مدخلاً إلى نقض الميثاقية بدلا من تدعيمها. خاضها الحماسيّون على نيّة التقويض، وبما يُشبه سلوك جبهة الإنقاذ الجزائرية وقائدها على بلحاج، عن تلك الديمقراطية التى تُشبه السلالم الصاعدة حصرًا، والتى يرتقيها حُرّاس الدين والدنيا مرّة وللأبد، ولا يرتقونها إلا ليُطوّحوها ويقولوا لها «باى باى”.
استتبّ الأمر للحُكّام الجُدد. صاروا سادة البلاد والعباد، وأمضوا خناجرهم فى لحم فلسطين، والغزّيين من قبلها طبعًا. عشرون عامًا أو أقل قليلاً، ما تحرّك القطاع خطوة للأمام، ولا تقارب مع رام الله أو سمح لها بالتقارب معه، ومئات الجولات من القاهرة وإليها، وصولاً لأصقاع موسكو ومُكابدات الارتحال إلى الصين، وقد كانت مضربًا للمثل قديمًا على البُعد والإرهاق، كما فى الحديث الشريف عن طلب العلم.

اكتفى أبناء أحمد ياسين بالقطاع عن فلسطين، وبالسلطة المُقيّدة مكانا والمُطلقة زمانا عن الدولة الضائعة. أبرموا اتفاقات ظاهرة وضمنيّة مع المُحتل الغاشم، خاضوا مناوشات محسوبة وتقاعسوا عن غيرها، وفيما كانوا يتلقّون حقائب الدولارات من مطار بن جوريون، أشاحوا ببصرهم عن استيطان الضفة واقتحام الأقصى، ومطاردة مقاتلى الجهاد فى أرجاء غزّة ونواحيها. كانوا عُرضة لمُتوالية من عمليات «جزّ العُشب»، وما بحثوا عن مخرج من الأنفاق الحاجبة للضوء؛ إنما عمّقوها وزادوها طولاً وعددًا.

كانوا فى انتظار النبىّ المُرسَل بدعوةٍ تقلب الأوضاع رأسا على عقب، ولا يهم إن كان للصالح أم الطالح. خرج السنوار من محبسه فى صفقة جلعاد شاليط، وسرعان ما ترقّى وعوَّض فترة الانقطاع، وأمسك بزمام القطاع كاملا، وبالحركة رأسًا وأفرعًا ومن مخنقها ومواطن عفّتها أيضًا. خبرة الرجل سابقًا أنه كان آلة قتل مُتحرّكة فى «جهاز مجد الأمنى»، يتعقّب العملاء ويستصدر أحكام إعدامهم وينفّذها، دون تحقيق أو مُحاكمة. ولديه ثأر مع الاحتلال عن عقدين قضاهما وراء القضبان، ولم يُعايش الغزّيين أو يختبر مواجعهم وأحلامهم، وبالتبعية فربما رأى أنه مُتحلّل من أى التزام تجاههم.

أطلق الطوفان على نيّة التحرير وتبييض السجون؛ ثم أخذت الآمال تتضاءل حتى انحصرت فى العودة إلى السادس من أكتوبر؛ وحتى هذا لم يعُد مُمكنًا. أطلقت الحركة الرصاص على نفسها، وتتشبّث بالحياة على حساب المجموع، وتحتكر غُرفة العناية المُركزة وجهاز التنفّس الوحيد لاستنقاذ نفسها؛ ولو أفضى بها الوهم إلى مزيدٍ من التردّى، وأكل فى طريقه طوابير من القرابين البشرية المُقدّمة مجانا، أو «الخسائر التكتيكية» كما وصفهم خالد مشعل.

انقلبت المقاومة من نضال إلى انتحار، ومن طَلب للحياة إلى افتتان بالموت. تحوّلت فى غفلة من الشعب، وغيبة لرُشد القيادة، وتغييب مُتعَمَّد للسياسة والبراجماتية، إلى تقدمة تطوّعية للأصول والمُمتلكات، وبَذل للنفس عن غير حاجة. كان عليها أن تكون استنزافًا للعدوّ؛ فإذا بها تُقطّع شرايينها، وتدعوه لأن يشرب من دمها، ويكتم أنفاسها، ويستنزف القضية وأهلها جميعًا بعجزٍ منها وتعجيز لهم، وبلا منفعة واضحة أو تصوّر عمَّا بعد القفز فى النار واستمراء الإقامة بين لهيبها العالى.

خطيئة الطوفان ليست فى الحجم والأثر، واستفزاز الصهاينة واستنفارهم لمُطلَق التمنّى الذى ما مرّ على خاطر نتنياهو أكبر ولا أخطر منه. الكارثة فى أنها خلعت عنها رداء المقاومة، وتحلّلت من أشراطها العاقلة، وسارت على طريق الأذى كما لو كانت فى يومها الأخير، أو أنها بطل تراجيدى يمضى لحتفه راضيًا، أو مريض يائس بعدما أخبره الأطباء بأنه لا أمل له أو شفاء.

ضربت بما يفوق طاقتها، وسعت لقَضم ما تعجز عن مضغه وابتلاعه. وأوصدت الأبواب قبل أن تُغادر مستقرّها الآمن؛ كأن السنوار تمثّل هيئة طارق بن زياد فى الحكاية الذائعة دون دليل على حدوثها، بإحراقه المراكب بعد الوصول إلى ساحل الأندلس، والخطابة فى جنده قائلا: «العدو من أمامكم والبحر من خلفكم». صادر من باقة خياراته تكتيكات الكرّ والفرّ، وحرّم على نفسه الارتداد والنكوص حالما يستشعر فيهما النجاة. ناطح نتنياهو عن يقين راسخ بفوارق القوّة بينهما، وتعالى على بيئته عن معرفة مباشرة بمدى هشاشتها وما تعانيه من بؤس وشظف وقلّة حيلة.

فلسطين قضية وجود لا حدود قطعًا؛ لكن الإخوان وفرعهم الحماسىّ عزلها عن الزمن والتوازنات، واختزلها فى حالة ظرفية لا تقبل الإرجاء؛ ولو استُيقن من استحالة الحسم. قُزّمت القضية حتى صارت حركةً، والمقاومة إلى وصفةٍ تخص فريقًا بعينه، وتصطبغ باللون الوحيد الذى فرضه عليها.
والحق أنها عجينة مُركبة من مكوّنات وأفكار ووسائل وبدائل لا حصر لها، فيها البيولوجى كما فى مناعة الجسم، والسلوكى الذى لا يستنكف السياسة أو يستبعدها، ويصح الالتجاء فى تقويتها للدواء، ونمط العيش، وإلى تغيير قائمة الطعام والشراب ومواعيد النوم واليقظة والنشاط اليومى.

ضاعت غزّة بمقامرة رجل واحد، أو بنزوة عابرة من فصيلٍ أعمته الذاتية، أو طيَّرت عقله الإملاءات ومقتضيات الانخراط فى تحالفات فوق وطنية، وإثبات الولاء للمُمانعة ولو بالخصم من الإرث الفلسطينى وتجاربه التحرُّرية الطويلة والمريرة. والضياع هُنا مُتعدّد ومُتدرج أيضًا: من الإبادة والإفناء وتحويلها إلى بقعة غير صالحة للحياة، وحتى التعلٌّق بأهداب الظروف والمصادفات إزاء خطّة «الريفييرا الترامبية»، أو نوايا التهجير البنيامينيّة.

ولن يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوّله، واستضاء فيه الأوائل بعثرات السابقين عليهم، وعطايا النُضج والنزول من سماوات الوهم إلى وحل الواقع الردىء. صارت إسرائيل واقعًا، وليست من مصلحة فلسطين أن تخوض حروبًا ظالمة وغير مُتكافئة، والمقاومة مائدة عامرة بأصناف شتّى، قوّتها فى تنوّعها، ومقتلها فى ابتسارها وإلحاقها على أجندة أو تيّار، وفى تعرية السياسة من السلاح، أو تحكيمه بإطلاقية فيها وفى الساسة والمُتمرّسين على فنون الإدارة والتفاوض والاحتيال على مكائد الأيام والأخصام.

ما من شبر بين النهر والبحر إلا وكان موضعًا لطعنةٍ أو مذبحة أو حكاية عن قسوة الامتحان وعبء الاستخفاف به. لا حاجة للمنكوبين إلى دليل إضافى، أو لنكبة جديدة. المُقاوم الحق يُقدِم ويُحجِم بنازعة وطنية صافية، ويترجّل حالما تقضى الظروف، أو يكون فى انكساره المقضىّ به حتمًا منجاة لأبرياء كُثر؛ لا سيما أن الإنكار والاستكبار وتغليب المظنّة على اليقين، لا تفعل شيئًا إلا الإرجاء وتعظيم الأعباء.

يُقال إن أهل مكّة أدرى بشعابها، ويصح القول فى غزّة؛ اللهم إلا حماس. تضرّرت السردية كما تضرّر المسرود عليه، ومع كل قتيل تنحسر الآمال ويعلو منسوب اليأس، والخشية أنك لو فتحت منفذا على البحر أو البر والجو لطار الآلاف غير باكين على أيّامهم السوداء، وحانقين على المُحتلّ والمُختلّ معًا. المذابح المجّانية لا تُقوّى العزم أو تُصَلِّب العود؛ بل تزرع فى صدور الغزّيين بذرة مُرّة قد تقودهم للكُفر بالشعارات، والالتجاء إلى أسوأ الخيارات؛ طالما أن المآلات تتساوى فى النهاية: موت هُنا بالجوع أو القتل والاغتراب عن الحياة، أو موت هناك بالغُربة والارتجال وقَطع الجذور.

يجب أن تكون النكبة الثانية إحالة إلى الأولى، وما بينهما من عقود وتعقيدات وتصاريف. استدعاء دروس أيلول الأسود وحصار بيروت، والانتفاضات والمعارك والتبدُّل على موائد اللاعبين ذوى الضمائر المُعتلّة والمائلة، من الصمود والتصدّى مع البعث إلى المُمانَعة مع الشيعية المُسلّحة، وبينهما الإخوان والعثمانية الجديدة والرُّعاة والمُموّلون من رواسب الصحوة ودول الوفرة المالية والسخاء المشبوه.

العودة لمُنظّمة التحرير، والتعلُّق بما تبقّى من أوسلو خاصة الشرعية والاعتراف، والانضواء تحت راية السلطة الوطنية، ومواجهة العالم بقيادة موحّدة وخطاب واحد. تفكيك ذريعة الرهائن، وتخلّى حماس عن وضعية القط المشتغل فى حقل قشّ، وإخلاء وجه القطاع من الأيديولوجيا والفئوية والانقسام.

لن تموت المقاومة أو تصبح زائدة عن الحاجة أبدًا؛ لكنها ستظلّ عبئًا ما لم يُعَد النظر إليه من زاوية إصلاحية منضبطة وناضجة، وتكييفها فى إطار المشروع الوطنى، وصفّها بين رُزمة الأوراق والبدائل؛ لا أن تكون خيارًا فوق الخيارات، أو سلاحًا لا تتجلّى فاعليّته إلا فى إخصاء بيئته وتعطيلها عن التفكير والمقاربات العاقلة.

المقاومة طلبٌ للحياة؛ سيكون الموت على الدوام واحدًا من آثارها الجانبية؛ إنما حالما يتحوّل إلى نتيجة واحدة مُعمّمة، ويصير الهامش متنًا والجانبى فى الواجهة؛ فإنها لا تعود مقاومة أو نضالاً، بل انتحار واشتغال من ضفة العدوّ، وهكذا يكون التصويب على القضية أصلاً، لا لصالحها ولا على الصهاينة للأسف.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب