لأسباب كثيرة كان واضحا من البداية أن أشرف مروان كان أحد أهم عناصر الخداع الاستراتيجى فى حرب أكتوبر، وبالرغم من أهمية ما نشرته «يديعوت أحرونوت» واعتراف كل الأطراف الإسرائيلية بأن أشرف مروان لم يكن جاسوسا لإسرائيل وإنما كان خدعة من خداع الرئيس السادات والمخابرات المصرية، للموساد، وأن إسرائيل ابتلعت الطُعم. وهو تأكيد لقدرات المصريين وأجهزتهم، فقد كتبت فى حلقات مبارك فى «اليوم السابع» عام 2016 «الحلقة 11»، أن وراء تضخيم مزاعم إسرائيل كان الأستاذ هيكل.
عندما صدر كتاب إيلى زعيرا، الذى قال فيه إن أشرف مروان كان جاسوسا لإسرائيل وأبلغهم بموعد حرب 1973، ثم فيلم «الملاك: الجاسوس المصرى الذى أنقذ إسرائيل»، وكتبه أورى بار يوسف، هو أيضا يتبنى نفس القصة، لكن كان واضحا حتى فى حكايات إيلى زعيرا وما بعده أن هناك نقاطا سوداء غامضة، خاصة أن مصر انتصرت انتصارا واضحا، وهو انتصار اعترف به العالم، لكن سعى بعض خصوم الرئيس السادات إلى التقليل منه، بدافع الانتقام.
عندما أصدر إيلى زعيرا - مدير الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وقت حرب أكتوبر - مذكراته، لمح إلى أن المصدر الذى أبلغ تسفى زامير - رئيس جهاز الموساد الأسبق - بموعد حرب أكتوبر قبل اندلاعها بـ24 ساعة كان هو نفسه أشرف مروان، وقد أثار التلميح الجدل، لكن كان واضحا أن هناك ثغرات، حيث كان زعيرا نفسه ممن اتهموا بالتقصير، وحتى فى الفيلم الذى أنتجته نتفليكس، كان واضحا أن مروان أبلغ إسرائيل مرات بمواعيد الهجوم المصرى، وهو ما لم يحدث وكلف إسرائيل تكاليف عالية، وهناك مشهد لعميل الموساد يصفع مروان على وجهه لأنه كلفهم الكثير بمواعيد وبلاغات خاطئة، وبالتالى فقد كان واضحا أن مروان هو إحدى أدوات الرئيس أنور السادات ضمن خطة خداع ضخمة تبقى مثالا على عبقرية المخابرات المصرية.
لكن اللافت للنظر أن هناك صحفا حاولت تبنى الرواية الإسرائيلية، وهذه الصحف كان يغذيها الكاتب الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل، والذى كان يحمل لأشرف مروان مثلما يحمل للرئيس أنور السادات، الكثير من المشاعر السلبية، بل التى تصل إلى حد الانتقام، وبالتالى فقد كان أحد الذين نفخوا فى الرواية الإسرائيلية، وأعرف عددا من تلاميذ هيكل ساهموا فى نشر الرواية الإسرائيلية بشكل كبير ويمكن الرجوع لصحف الفترة التى صدرت فيها المذكرات.
الأستاذ هيكل كان يصر على تبنى الرواية الإسرائيلية، وكان وراء التوسع فى نشرها فى الصحف، ومعه بعض الأطراف من أسرة عبدالناصر، وفى كتابه «مبارك وزمانه» كشف هيكل أنه بعث برسالة إلى مبارك - عن طريق صديق لهيكل قريب من مبارك - يطلب فيها إجراء تحقيق رسمى فى الموضوع، ويرى أن مبارك لا يملك إعلان براءة أشرف مروان دون أسباب أو حيثيات.. لكن هذه الرسالة لم يرد لها أى شاهد، ولم يؤكدها أحد، بل أيضا اللقاء الذى تحدث عنه الأستاذ هيكل مشكوك فيه، تماما مثلما كذب حسين سالم قصة لقاء هيكل معه فى أوروبا.
ويروى «هيكل» قصة لقاء جمعه فى لندن مع أشرف مروان، وأنه سأله عن مغادرة القاهرة، وأن مروان قال له إن الرئيس الأسبق مبارك لم يطلب من مروان مغادرة القاهرة، ويقول هيكل: هل تتصور أن صهر «جمال عبدالناصر» جاسوس؟! وأنت كنت أقرب الأصدقاء إليه وتعرفه؟!
وقلت بصراحة: «دعنى أكون واضحا معك، لا شهادة حُسن سير وسلوك من «أنور السادات»، ولا صلة مصاهرة مع «جمال عبدالناصر» تعطيان عصمة لأحد.. نحن أمام مشكلة حقيقية تقتضى وضوحا مقنعا وحقيقيا.
والواقع أن الفيلم الذى تم إنتاجه عن قصة أشرف مروان «الملاك» لم يتبن قصة أنه جاسوس، وهناك مشهد وعميل الموساد يصفع مروان لأنه أبلغه مرات طوال عامى 1972 و1973 بموعد الحرب، وهو ما دفع إسرائيل لرفع الطوارئ مما كلفهم الكثير، وأنه عندما قامت الحرب كانوا يتصورون أنه غير صادق، وهو ما يشير إلى وجود رواية الخداع من قبل السادات. أشرف مروان اختفى، وبقى مبارك الذى حرص على إعلان براءته من أى اتهام بالجاسوسية، وكانت جنازة مروان رسمية حضرها وزراء ورموز من الحكومة والحزب، بينما كان مبارك خارج مصر، وأكد أن مروان كان وطنيا خدم بلاده.
والحقيقة أن ادعاء الأستاذ هيكل أن مبارك لا يملك منح شهادات براءة، كانت جملة فارغة وبلا معنى، فنحن أمام رئيس وأحد قادة أكتوبر، وأيضا كون رئيس جهاز المخابرات وقيادات الدولة يخرجون فى جنازة مروان فهى شهادة تتجاوز مشاعر انتقام هيكل أو تهافت تحليلاته فى هذا الكتاب الذى يعد نموذجا، وكتاب «مبارك وزمانه» كان نموذجا كاشفا لكثير من الحكايات والقصص التى اتضح عدم صحتها، مثل قصته عن حسين سالم، وحتى عن تصوراته عن مبارك، حيث صدر الكتاب على عجل وامتلأ بالثغرات والقصص الناقصة أو الملفقة، ويعتبر «مبارك وزمانه» و«خريف الغضب» نماذج للانتقام، والانفعال الذى تخلى فيه الأستاذ عن احتياطاته وقفازاته الحريرية.
الشاهد أن التحقيق الذى نشرته يديعوت أحرونوت، وترجمه ونشره الصديق الدكتور محمد عبود خبير الشؤون الإسرائيلية، وكما يقول عبود «يتكون من تسع صفحات كاملة بالعبرية يستند التحقيق إلى آلاف الوثائق السرية التى لم تُكشف من قبل، وإلى حوارات نادرة مع ضباط مخابرات ومسؤولين إسرائيليين شاركوا فى العملية، وقد امتدت فترة الإعداد نحو أربع سنوات شملت الاستماع إلى تسجيلات صوتية، والاطلاع على تحقيقات رسمية أجريت حول الفضيحة الأمنية التى ضـربت إسرائيل».
وهو تحقيق يؤكد أن أشرف مروان كان أحد منتجات المخابرات المصرية، وخطط الخداع التى رسمت وصنعت الانتصار، مثل كثير من بطولات المخابرات المصرية فى أكتوبر وقبلها وبعدها، وأن الموقف من أشخاص لا يجب أن يعمى عن الاعتراف بالحقيقة.

اليوم السابع