لم يكن رحيل جمال عبد الناصر 28 سبتمبر سنة 1970 بالأمر الهين، بل شغل الدنيا كلها، وأوجع قلوب المصريين، وذلك لأسباب كثيرة منها موته المفاجئ، فلم يتخيل الناس أن الرجل الذي يرونه الآن على شاشات التليفزيون يودع الوفود العربية سوف يتوقف قلبه المثقل بأحلامهم بعد ساعات.
بدأ موت جمال عبد الناصر منذ هزيمة يونيو 1967، فقد تلاحقت الأحداث سريعًا، ووقع ما لم يكن في الحسبان أبدًا، فلم يتخيل جمال عبد الناصر ولا الشعب الذي خاض رحلة طويلة من أجل بناء الجمهورية أن يجدوا أنفسهم فى مواجهة هذا الموقف الصعب، هزيمة ثقيلة تركت إثرها أول ما تركت على قلب الزعيم.
رحلة الموت .. نهاية مبكرة
يمكن القول إن جمال عبد الناصر انطفأ فجأة، فالرجل الذي تصدر المشهد العربي منذ ثورة يوليو 1952، وبقي حتى لحظاته الأخيرة موضع الأحداث وملتقى الأنظار، والذي كان يجمع بين الولاء الشعبي الجارف والانكسارات السياسية الثقيلة كان موته تتويجًا لرحلة طويلة من الصراعات والانكسارات والخذلان، رحلة حملت في طياتها بذور نهايته المبكرة.
انكسار يونيو.. جرح لا يندمل
كانت يونيو 1967 نقطة الانعطاف الأهم في حياة جمال عبد الناصر، لقد أطلقنا عليها نكسة لكنها في الحقيقة كانت هزيمة وكان جمال عبد الناصر يدرك ذلك جيدا، ويمكن القول إنها كانت زلزالا سياسيا ونفسيا أدخل الأمة العربية في دوامة من الإحباط.
خرج جمال عبد الناصر على الجماهير بخطاب التنحي الشهير، معلنًا تحمله المسؤولية، لكن التفاف ملايين المصريين حوله مطالبين ببقائه، منحه قبلة حياة جديدة، ورغم ذلك، فإن آثار الهزيمة بقيت تنخر في جسده وروحه، إذ عاش منذ ذلك الحين تحت ضغط استعادة الكرامة المهدورة، وهو ما ألقى بظلاله على صحته التي بدأت تتدهور بشكل ملحوظ.
خذلان الأصدقاء
لم تكن الحرب وحدها ما أثقل كاهل عبد الناصر، فقد اكتشف أن شبكة التحالفات العربية والدولية التي نسجها خلال سنوات الصعود لم تصمد أمام الأزمات، بعض الأنظمة خذلته، وبدت مواقف الاتحاد السوفيتي مترددة أمام الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل.
وفي الداخل، عانى من توترات مع رفاقه في السلطة، وواجه ضغوطًا اقتصادية خانقة نتيجة استنزاف الحرب وسياسات التصنيع الواسعة، كان عبد الناصر محاصرًا بين طموحات لا تنتهي وإمكانات محدودة، وبين آمال شعبية جارفة وأرض سياسية تهتز من تحته.
الاستنزاف .. خيار الضرورة
بعد الهزيمة، اندفع عبد الناصر إلى خيار حرب الاستنزاف (1968–1970) على جبهة قناة السويس، كان الهدف إعادة بناء الجيش المصري وترميم الروح الوطنية، وفي الوقت ذاته الضغط على إسرائيل لإدراك أن احتلالها لن يكون بلا ثمن، هذه الحرب أنهكت العدو لكنها استنزفت مصر أيضًا، ومع كل غارة أو قصف كان قلب عبد الناصر يدفع الثمن، فقد تزايدت نوباته المرضية، وأصبح الإرهاق حليفًا يوميًا له، ومع ذلك ظل يرفض الاستسلام، كأنه يحاول عبر معاركه أن يبرهن لنفسه أولًا أنه ما زال حيًا سياسيًا.
أيلول الأسود.. كسرة القلب
جاءت أحداث أيلول الأسود في الأردن (1970) كأنها الضربة الأخيرة لعبد الناصر، فقد اندلع الصراع الدموي بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية، ووجد عبد الناصر نفسه مضطرًا للقيام بدور الوسيط، استدعى قادة الأطراف المتصارعة إلى القاهرة، وعاش أيامًا عصيبة بين مطارحات سياسية مرهقة ووساطات محفوفة بالغضب والتوتر.
كانت لحظة توقيع اتفاق القاهرة بين الملك حسين وياسر عرفات بمثابة إنجاز سياسي له، لكن الثمن كان باهظًا على صحته. فقد بدا مرهقًا بشدة، وظهر العرق يتصبب من وجهه أمام عدسات الكاميرات، بينما كان يحاول أن يحافظ على هيبته المعتادة.
اللحظات الأخيرة
في ظهيرة يوم 28 سبتمبر، أنهى عبد الناصر استقباله لرؤساء الوفود العربية المشاركة في قمة القاهرة، بدا عليه الإرهاق، فعاد إلى منزله في منشية البكري، جلس مع أسرته وتناول فنجانًا من القهوة، ثم شعر بآلام حادة في صدره.
سقط على الكرسي، وحاول أطباؤه إسعافه، كان بينهم الدكتور الصاوي حبيب والدكتور محمود جامع، لكن الأزمة القلبية كانت أشرس من كل محاولات الإنقاذ، بعد دقائق من التوتر والهرج في أروقة المنزل، أسلم عبد الناصر الروح عن عمر ناهز 52 عامًا.
انتشر خبر الوفاة كالصاعقة في مصر والعالم العربي، ملايين خرجوا إلى الشوارع في جنازة مهيبة تحولت إلى أكبر تظاهرة وداع شهدتها القاهرة، بكاء الرجال والنساء، وصمت العواصم، وتدفق الوفود من كل اتجاه، كانت جميعها شهادة على المكانة التي احتلها عبد الناصر في قلوب العرب، رغم الهزائم والانكسارات.