انقضت القاعة الأممية بصورة لا تتكرر كثيرا، ولا بتلك الكيفية المُترعة بالرفض والاشمئزاز. نقلت غالبية الوفود إحساسها بالاحتقار لشخص نتنياهو ودولته، وأنها صارت بلدا منبوذا بالفعل، ولولا ما تبقى لها من المظلة الأمريكية المتغطرسة لكانت فى وضع أسوأ كثيرا، بين حرب لا تُريد إنهاءها، وانتصار لم تتحصل عليه، وعار أبدى سيُلازمها لعقود طويلة، وقد صار أعلى صوتا وأشد تأثيرا من الهولوكوست الذى تاجرت به واستثمرت فائضه العاطفى طويلا، ولدرجة لم يعد صالحا معها لإبقائها فوق القانون، أو التعمية على انحطاطها الفج سياسيا وأخلاقيا.
لم يكن المشهد مفاجئا على كل حال. والمؤكد أن ممثلى إسرائيل فى المنظمة والوفد المرافق لرئيس حكومتها كانوا يتوقعونه. وقد سبقه مؤتمر حل الدولتين بتأييد كاسح لإعلان نيويورك، وموجة اعترافات غربية بالدولة الفلسطينية، ثم غياب مندوب إسرائيل فى مجلس الأمن عن جلسة بشأن غزة، متذرعا بموسم الأعياد اليهودية.
حتى زعيم الليكود نفسه تحدث سابقا عن عُزلة الدولة الآخذة فى التوسع، وعن حاجتها إلى أن تكون «سوبر أسبرطة» ممزوجة مع أثينا، بمعنى الاكتفاء الذاتى والفاعلية الخاصة الكاملة، اعتمادا على قدراتها ودون انشغال بمواقف الآخرين منها، بعدما غلبت عليها السلبية والرفض، وصار الاختلاف فى منسوب الغضب وظاهر اللغة المعبرة عنه، وليس فى الاختلاف على الجُرم والمجرم.
وقف الرجل مسلحا بالأكاذيب نفسها على المنصة التى أُدين منها صراحة وضمنيا لعشرات المرات. يجتر السردية الزائفة لأنه لا بديل عنها لديه، ولأن الولايات المتحدة تشاركه النفخ فيها، وتبقيها على قيد التداول الخافت رغم انفضاض الأسرة الدولية من حولها.
وقد بدا التطابق فى أوجه عندما تكلم ترامب قبله بثلاثة أيام عن الطوفان والأسرى، وتجاهل الإبادة الجماعية المفتوحة لعامين كاملين، ثم غاص بكامل جسده فى الدعايات المضادة لحل الدولتين، وردد المزاعم العبرية بشأن أنه مكافأة الإرهاب ودعم لحركة حماس.
واشنطن لا ترى فلسطين أصلا، ولا ترحب بها دولة مستقلة. وإذا كان خيارها صريحا وشديد الوضوح فى خطاب الرئيس؛ فإن كل المقاربات السابقة واللاحقة تنطلق من النقطة ذاتها، ويتوجب النظر إليها تحت عنوان الإنكار المصرّح به والمشار إليه.
ما يعنى أن أى خفوت فى النبرة أو تعديل لها، قد يكون ناشئا عن حسابات ظرفية طارئة، وبغرض الاحتواء المؤقت، أو الاحتيال طويل المدى؛ لا سيما أن الهبّة الدولية تجاه جرائم الاحتلال ولصالح الاعتراف بحل الدولتين، باتت عامل ضغط كبير على أعصاب تل أبيب، وتسبب لها إزعاجا بأكثر مما يتبدّى فى ردود فعلها، وما تجتهد لإخفائه والتعامل معه بقدر من التعالى واللا مبالاة.
سقطت خطط التطهير العرقى بالتتابع على مدار ثمانية عقود، والهجمة البربرية على غزة أضافت إلى مدونة الضحايا، أضعاف من أُضيفوا لكشوف التهجير أو أبدوا رغبة فيه. ضعُفت حماس لكنها لم تتفكك تماما، والحرب لا تعد بالمزيد حتى مع السيطرة الكاملة على القطاع.
أما مصلحة إسرائيل فتنحصر اليوم فى إخراجها من المستنقع؛ ولو كانت هى نفسها لا ترى ذلك، فالمهم أن الحليف الأمريكى يراه ويقتنع بمخاطره الوجودية، وبأن مرحلة ميدان النار المُؤطّر بالأيديولوجيا توشك أن تتقضى، فيما تتعاظم مخاوف الانفجار على نطاقات أوسع، مفتوحة على كل الاحتمالات، وغير مأمونة العواقب ولا قابلة للإدارة تحت سقف منخفض.
انزلق الصهاينة فى الفخ الذى أوقع بالحماسيين؛ ألا وهو السعى بالأدوات نفسها إلى أهداف متضادة. فإذا كان «طوفان السنوار» عملا مقاوما فى سلسلة النضال الوطنى؛ فقد أعاد القضية عقودا للوراء، وخصم من رصيدها القائم فى السياسة والسلاح، بما يصعب تعويضه فى أى أجل قريب.
وإذا كان الرد عليهم من جهة الاحتلال فعلا ثأريا أو تحت لافتة الدفاع عن النفس؛ فإنه أضاف لسجل الوحشية والإيغال فى الدم فصولا تفرق سوابقها، وأكد بما لا يدع مجالا للشك أن العقدة الكبرى تتلخص فى سلوك الأصولية المتطرفة على الناحيتين، وأن ما كان بينهما من تحالف مضمر، لم تختلف ارتداداته بعدما تحول إلى عداوة ظاهرة.
ولا كذبة أشد سخفا وسذاجة من ادعاء أن تنشيط حل الدولتين واعتراف العالم بفلسطين يكافئ حماس؛ ذلك أن الحركة تقف على الضد أصلا من ذاك الخيار، وما نشأت وتضخّمت إلى فى سياق حالة عقائدية تنظر للجغرافيا كلها من النهر للبحر على أنها وقفية إسلامية لا هامش للتفريط فيها؛ فتطعن بالمزايدة فى السلطة الوطنية الساعية للممكن على حساب المستحيل، وتُدعّم عدوّها بالذريعة وانتخاب وترقية خطاب شبيه بها على الجانب الآخر.
لم يُرحّب الحماسيون فى أية محطة سابقة بفكرة الدولتين من الأساس، وحتى عندما أعادوا تحرير وثيقتهم الاستراتيجية فى العام 2017، لم يأت قبولهم بدولة جزئية على حدود يونيو 1967 مشمولا بأى اعتراف بإسرائيل، وما تزال الحركة خارج منظمة التحرير لأسباب شتّى، بعضها النزاع الداخلى على الصدارة والإمساك بزمام القضية؛ لكن أكثرها يُحمَل مباشرة على الرفض المطلق لاتفاقية أوسلو، وما تمخّضت عنه من اعتراف متبادل بين رام الله وتل أبيب.
وانطلاقا من أفكار التنظيم وقناعاته؛ فإن الطوفان نفسه كان عملا مضادا لمنطق حل الدولتين، ذلك أنه رفع شعار التحرير بدلا من التسوية، وتقصّد الإفناء لا الإيلام، كما تفعل إسرائيل فى غزة من يومها إلى الآن.
أى أن مُحرّكات الاشتباك على الناحيتين تنطلق من أرضية واحدة، والتفاوت فى الأداء يعود إلى فوارق القوة والإمكانات، وليس لاختلاف الرؤية أو محددات العلاقة بالخريطة الكبرى والآخر الذى يقتسمها بمنطق الأمر الواقع. ما يجعل ابتلاع القادر لها معادلا كاملا لتجريد العاجز منها، كأنهما وجهان متطابقان تماما، أو انعكاس الصورة نفسها فى مرآة مستوية.
أى أن تغييب فلسطين يصبُّ فى صالح حماس، مثلما يخصم استحضارها من وهج التطرف القومى والتوراتى فى إسرائيل، وكلاهما لا يُريد الحلول الجزئية الدافعة نحو التعايش؛ بل الصراع على مُرتكزات صفرية لا تقبل حياتها إلا بفناء الآخر، وتُقرّ له ضمنيًّا بتفعيل المُعادلة ذاته بصورة عكسية، بحيث يصير له أن يُنكِّل بها كيفما أراد؛ فيُعزّز مراكزها المعنوية ويزيد بريقها، ويُضعف البديل السياسى تحت راية السلطة الوطنية، بضعفها الحالى أو مع أية نسخة إصلاحية مُنشّطة منها مُستقبلاً.
والحال؛ أن الاعتراف بفلسطين على الحدود المُتّفق عليها فى مدريد وأوسلو، ينطوى ضمنًا على إبعاد الخيارات الخشنة من مجال فض الاشتباك بين الدولتين، لكنه لا يخلو من النصّ صراحة على تنحية حماس عن المشهد، كما جاء فى إعلان نيويورك وكل الرسائل المتواترة من العواصم المُعترفة بالدولة مؤخّرًا.
فتح المجال للتداول فى أية تسوية سلمية؛ ولو كانت عسيرة وبعيدة المدى، يُغلق بالضرورة أبواب الأبدية التى يُقيم الصراع فيها منذ بدايته، ويُضعف خطاب الحرب ومخالب الصقور على جانبى الخط الأزرق، بينما يُضيف الانسداد إلى رصيد الفصائل الأصولية، ويُغذّى أطماع المُتطرفين فى الدولة العبرية بترقيتها إلى أوهام «إسرائيل الكبرى»، ثم بإمدادها فيض لا ينفد من الذرائع والخُطب العاطفية المنقوعة فى الدين، بما لا يتّسع لمنطق الدنيا، ولا يقبل الحسم بقوانينها السيّارة.
كانت فلسفة السنوار فى طوفانه أن الأوضاع سيئة، وهى كذلك بالفعل، وستظل هكذا أو تسوء أكثر بمزيد من الصمت والجمود. أراد تحريك التوازنات فارتدّت للوراء، وطغت على كامل جغرافيا الشيعية المُسلّحة وخطابها المُمانع.
وفى الضد؛ سعى نتنياهو إلى الإجهاز على غابة خصومه الراديكاليين مرّة وإلى الأبد؛ فتغلّب على الحصة الأكبر منهم، لكنه صار إزاء مخاطر الصدام مع آخرين من خارج دائرة الميليشيات، وبما يُعيد المسألة إلى فاتحتها فى زمن النكبة الأولى، بمعنى تعميم العداوة واستحثاث مشاعر الرفض المُطلق وغير القابل للمواءمة.
وبعيدًا من حقيقة أن الاعترافات لن تُنشئ دولة فى القريب، وقد لا تغيّر الأوضاع عمّا هى عليه الآن؛ فإنها تُؤشِّر على فلسفة مُغايرة فى النظر إلى تعقيدات الشرق الأوسط واحتدام قضاياه، أهمها أن الغرب أو طائفة منه لم تعُد تُراقب المشهد بانحياز صارخ، ولا بحياد مُتواطئ، وأنها تردّ صراحة على مُحاولات قضم الأرض وتصفية القضية.
أى أنها إن لم تكن حاسمة باعترافها؛ فعلى الأقل ترسم خطوطًا مُستجدّة تقطع الطريق على مساعى تصفية القضية، لا تُقيم فلسطين؛ لكنها تُطّل ابتلاعها؛ خاصة أن المراقبة الصامتة فى السابق كان يُفهَم منها الإقرار والإجازة؛ ولو لم يُطرح ذلك صراحةً.
يستند نتنياهو إلى ترامب، والأخير بطىء فى استجاباته، ويفتقد الحساسية السياسية؛ لكنه يبدو منزعجا فى الآونة الأخيرة. وليس أدلّ من تبدُّل مواقفه عِدّة مرّات على فترات مُتقاربة، بين مقترح مبعوثه ستيف ويتكوف للهُدنة، ثم تعديله، فتمرير اقتفاء أثر قادة حماس بضربة جوية للدوحة، والحديث عن صفقة وشيكة، مقابل التحفيز على تتبّع الحركة والقضاء عليها، وأخيرًا المُزاوجة بين رفض حل الدولتين، ثم طرح خطّة تشتمل عليها ضمنيًّا؛ ولو بوعد يُرخَى فيه حبل الزمن إلى ما لا نهاية.
القمة التى عقدها سيد البيت الأبيض فى نيويورك، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، بمشاركة ثمانى دُوَل عربية وإسلامية، عُرِضَت فيها بنود الرؤية الأمريكية الأحدث، جامعةً خليطًا من أوراق التفاوض السابقة، ومن أفكار التسوية السلمية، ومحاور الخطة المصرية للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، فى نحو 21 نقطة تبدأ من وقف النار وتبادل الرهائن، وتمتد إلى المُساكنة الهادئة فى سياق يقود إلى دولتين، أو بالأحرى إلى دولة فلسطينية بشروط مُرهقة وسائلة زمنيًّا.
تتعاطى واشنطن مع القضية من نقطة مُنحازة أصلاً، ولا يصحّ أن تُوصَف بالوسيط على عواهن الوصف، ومن دون إيضاح أو تفسيرات للمواقف وتقلّباتها. الأقرب أنها وسيط مع الفلسطينيين بنكهة الضامن لأمن إسرائيل ومصالحها، وأقصى ما يُمكن الفوز به منها ألا تكون غاشمة فى نصرة الحليف، ولا مُستأسدة على الغريم.
والقصد؛ أن الصورة البيضاء مُطلقة التجرّد والنزاهة لن تُرى من الجانب الآخر للأطلسى، لا اليوم ولا فى أى يوم مُقبل. يُمكن للكياسة وحُسن التصرّف أن يُرشِّدا مواقف الإدارة الأمريكية نسبيًّا، ويُحدثا قدرًا من التحولات الإيجابية الضئيلة ضمن المنظور السلبى العريض، كأن يصرف ترامب النظر عن مشروع «الريفييرا الشرقية» فى غزة، أو يكبح نزوات اليمين الصهيونى فى تسريع وتيرة الاستيطان، أو إعلان السيادة على الضفة الغربية.
وبحسب ما نُشِر عن خطّته الأخيرة، من واقع مسوّدة نقلتها صحيفة «تايمز أوف إسرائيل»؛ فإن العناصر الأساسية تتّجه إلى إنهاء الحرب بفاعلية فورية مع قبول الورقة، ثم إطلاق الرهائن فى غضون يومين، وبدء عملية مُتسلسلة لتفكيك سلطة حماس وإحلال إدارة مدنية بديلة، تحت مظلّة هيئة دولية تنشأ بالتوافق بين الولايات المتحدة والشركاء الإقليمين، وكل هذا تحت عنوان أن تكون غزّة خالية من العنف والإرهاب، وأن تُطَوَّر لصالح شعبها حصرًا.
يرتدّ الطرح على أفكار احتلال القطاع وعودة الاستيطان إليه، أو تحويله إلى منصّة للاستثمار الاقتصادى خارج أفق القضية وآمال الفلسطينيين فى دولتهم المستقبلية؛ لكن البنود لا تخلو من فِخاخ؛ أهمها تعليق مسار السياسة على شروط فضفاضة وغير موقوتة، مع تغليب الهندسة الاجتماعية والثقافية على موضوعات الحل النهائى؛ إذ تتحدث عن تغيير المناهج الدراسية، وترهن الأمر بإصلاح السلطة دون تحديد ماهيته، وبإرساء حوار بين الشعبين للاتفاق على خارطة التعايش، مع النص الظنّى المُلتبس بأنه «قد تتهيأ الظروف لمسارٍ موثوقٍ نحو الدولة».
وصلنا إلى مرحلة تنعدم فيها الخيارات تقريبًا، وينحصر البحث فى الأفضل، أو بالأحرى الأقل سوءا، وليس عن المثالى الذى صار أبعد ممّا كان قبل الطوفان. ما يُوجِب الاحتكام إلى واشنطن قطعًا؛ لأنها الطرف الوحيد القادر على ترويض نتنياهو، ووضع النقطة المأمولة فى آخر جُملة الإبادة، فضلا على أنها لن تُرحِّب بأية قفزات سياسية طارئة، لا يحتملها الواقع أصلا، وقد لا تستديم لها طاقة المتحمسين حاليا.
كانت حماس جزءًا من المُشكلة، وهى مدعوّة لأن تكون جزءًا من الحل؛ بحسب المُتاح وتحت طائلة الشاغل الإنسانى وأولوية إنهاء المأساة الغزية. والورقة لا تترك للحركة هامشًا عريضًا كما كان فى السابق؛ إذ تنص على أنه حال رفضها لترتيبات إخلاء الاحتلال وتثبيت الإدارة المؤقتة برعاية الهيئة الدولية، يُمكن إنجاز ذلك فى المناطق الواقعة تحت الهيمنة الإسرائيلية.
ما يعنى أن جريرة الانقلاب فى إبعاد غزّة عن الضفة، ثم الطوفان فى إبعاد الضفة عن الحياة أصلاً، مُرشّحة للتصاعد حال تفويت اللحظة واستمرار المُكابرة، بحيث تتحول معاقل القسّام جيوبًا مُغلقة ومُسيّجة داخل القطاع، وينطلق قطار السياسة من دون بعض الجُزر الجغرافية، ومن دون الحركة فى كل الأحوال.
والمؤكّد أن الأفكار المطروحة تنطوى على فراغات مقصودة قطعًا؛ لكنها أفضل المُمكن فى الوقت الراهن، وبحسب الأوضاع القائمة، وما يترشّح أن تؤول إليه مع بقاء الحال على ما هى عليه لوقت أطول.
والرهان هُنا ليس على الرفض والعودة لنقطة الصفر؛ إنما على القبول وأخذ الأمور بحقّها، والتحرك نحو المستقبل وفق رؤية موضوعية شاملة، عمادها الوئام والتوافق داخل البيت، والمواكبة والاحتضان من الخارج اللصيق، وبما يسمح بأن تتوافق المسارات وتتوازى مع بعضها، ومن دون فقدان زَخْم الاعترافات الأخيرة أو انفعال العالم بالمأساة وتصاعد اهتمامه بالقضية.
انتهت مفاعيل الطوفان من جانب حماس، وكل ما تلا السابع من أكتوبر هزائم وخسائر صافية. سلاح حماس تبدّد أو تعطّل، وفُرصها فى الحكم معدومة، وتتضاءل فُرص الوجود نفسه كعناصر ومجموعات، لا مُجرد حركة بهياكل نظامية متماسكة.
نوايا نتنياهو بالغة السوء، وصلابة المنكوبين وتضحياتهم عدّلت شيئًا فى مواقف ترامب، والحاضنة العربية تحاول التوفيق بين الأضداد ما استطاعت، وليس على فصائل القطاع أن تستمرئ حال النزق والاستخفاف بالقضية الكُبرى، لصالح حسابات أيديولوجية وحركية صغيرة وبائسة.
الورشة كلها لافتكاك غزّة من الحصار الخانق، وإنقاذ الغزيين من مخالب النازية الصهيونية، وعناصر حماس ليسوا خارج المُعادلة. اللعبة غير مُتوازنة على الإطلاق، والفخاخ بعرض الطريق، ولا شىء مضمون مُطلقًا، فى الحرب أو السلم؛ ما يعنى أن ورقة ترامب غير المثالية يُمكن أن تنقلب على نفسها؛ لكن حرب نتنياهو الإبادية تقلّبت من بدايتها عشرات المرات، وما تزال مُرشّحة لمزيدٍ من الطفرات. ولا شكّ فى أنه لو حُوصِر فى البيت الأبيض غدا؛ فقد يوافق على المُقترح اضطرارًا، ويُراهن على أن ترفضه حماس كالعادة.
لا أعوّل على توتّر العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، ولا على أن الإدارة الجمهورية الحالية ستصير حمامة سلام أو وزّانًا عادلاً فى أى وقت مُقبل، المصالح والمواءمات قد تُحرّك الجمود قليلاً؛ وعلى المعنيِّين بحاضر فلسطين ومُستقبلها أن يغتنموا الفرصة، وأن يُنحّوا خطابات الصلف والسباحة فى الدم؛ وقد أثبتت أنها تجارة رديئة بالعواطف، ولا تردع القاتل أو تُجنّب الأبرياء كُلفة النزق والمغامرات.
حماس لا تحكم غزّة حاليا، ولا تُقاوم الاحتلال، والسلطة أفضل اقتراح مُمكن فى سياق بالغ الردّة والرداءة، وإذا كان العدو ظالمًا، وتلك من طبائعه ووظيفته أصلاً؛ فيجب ألا يُقلّده فريق من الضحايا أو يتشبّهوا به.
رؤية جامعة، وأجندة سياسية مُحدّثة، وإصلاح حقيقى بتجرُّد يضع الوطنى فوق الأيديولوجى، والعام قبل الخاص، ثم اقتحام الساحة الدولية بخطابٍ عاقل موزون، تتّسع له الآذان حاليا ويتردّد صداه استباقيا فى أرجاء الأرض، وحالما تستعيد فلسطين اتّزانها وبصيرتها من دون الورم الأصولى السارح فى جسدها؛ سيختنق سرطان نتنياهو وعصابته بالتبعية.
صحيح أن البديل لن يكون مُسالمًا؛ لكنه سيأتى من نقطة أضعف كثيرًا، وبدون الفورة الثأرية وذرائع الخطر الوجودى، وسيكون عليه أن يُكافح تردّى المكانة والرمزية وتبعات العُزلة والاحتقار، والبلد المنبوذ فى الهدوء غير الفوضى؛ لأنه لن يجد ما يتستّر به أو يُقدّمه لشعبه؛ إلا أن يعترف أو يمضغ التضحيات المطلوبة.
فلسطين ما زالت بعيدة؛ لكنها على مفرق بين خيارين: مُقامرة تُهدِّدها بمزيد من الإبعاد، ومُغامرة تُقرّبها من الحلم شبرًا، أو على الأقل تُعيد مصالحتها على الحياة، والكياسة أن تختار تُحسن الاختيار تحت أسوأ الظروف.