قبل سنة تقريبا جرى مشهد شبيه بما سيحدث اليوم. ارتقى المتحدث منصة الأمم المتحدة؛ فهمّ الدبلوماسيون من وفود بعض الدول بمغادرة القاعة.
كان موقفا أخلاقيا مما يحدث طيلة سنة سابقة؛ لكنه انطوى بالمصادفة على إدانة ضمنية لجريمة كانت تُرتكب بالتزامن مع الكلمة، عندما أقلعت الطائرات من بلد الرجل لتقصف دولة جارة، كأنه يُخرج لسانه للمنظمة وأعضائها جميعا، ويستفيد بفرصة الجمعية العامة لتغطية خرقه للقانون والأعراف الدولية، والحط من قيمة نظامها القائم على القواعد نظريا، والمستند صراحة لمنطق القوة، أو بالأحرى لنسخته الأمريكية على وجه التحديد.
الموقف المُشار إليه يخص بنيامين نتنياهو فى السنة الماضية، واستعاده مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعى مؤخرا باعتباره طازجا فى أروقة الدورة الحالية.
وقتها أصدر قراره بتكثيف الهجوم على لبنان، واغتيال الأمين العام الأسبق لحزب الله، حسن نصر الله، فى معقله الحصين على عمق عدة طوابق فى أحشاء ضاحية بيروت الجنوبية. وما كان فى حاجة أصلا لأمارة جديدة على توحشه ودمويته المفرطة؛ وقد عاينها العالم بأكمله على مدار شهور من الإبادة المفتوحة ضد المدنيين العُزّل فى قطاع غزة.
تحرّك الزمن وما تبدّلت الأوضاع، ويحل اليوم على المنصة ذاتها، ولا شىء يختلف تقريبا إلا أن جرائمه تزايدت، وصحيفة السوابق الإسرائيلية صارت تمتلئ بكل الموبقات؛ غير أن العالم يتزحزح عن مواضعه السابقة، وما عاد يُسلّم بالسردية الصهيونية أو يتلقّاها بالصمت والحياد.
وما بين الوقفتين نحو 25 ألفا أُضيفوا لقائمة الضحايا فى غزة، ومئات فى لبنان، وجولة تصعيد مع إيران، فانفلات وقضم للأراضى فى الضفة الغربية وسوريا، وأخيرا اعتداء لم تبرُد ناره بعد فى قطر، ولعلّه أوعز إلى جنرالاته بغَدرة جديدة ينفذونها بالنار فيما يمارس هوايته فى الاحتيال بالكلمات.
أو ربما يُخبّئ أحدث جناياته فى درج مكتبه هناك فى تل أبيب، ليُخرجها حالما يعود من نيويورك؛ كما هدّد استباقيًّا على خلفية مؤتمر حل الدولتين وموجة الاعترافات المُتزايدة بالدولة الفلسطينية.
الرجل المطلوب من الجنائية الدولية، سيدخل إلى معقل النظام الدولى ورمز العالم الحر؛ ثم يخرج سالما. ومنه إلى البيت الأبيض فى لقاء رابع مع ترامب خلال أقل من سنة، بعدما ظل نحو سنتين مهمّشًا من إدارة بايدن، إلى أن أحياه «طوفان السنوار» وأعاده إلى بؤرة الاهتمام الأمريكى.
تقترب الحرب من افتتاح عامها الثالث، ولا يبدو أنها فى وارد التوقف قريبا، إذ يُلقَى حبله على الغارب تماما، وتُلاقيه واشنطن على مواعيده المحددة بحسابات شخصية خالصة، يقال فيها الكثير عن مكر العجوز الليكودى ودهائه، وعن رابطة العقيدة والمصالح بين البلدين.
إنما ما لا يُقال أن الولايات المتحدة تكبر شكلا وتتقزم فى المضمون، أو هكذا يتخيل ترامب متفاخرا بالظاهر، ويراها العالم يائسا من الجوهر، وأنها تختبر مرحلة غير معتادة فى تاريخها القصير نسبيا، من أشد سماتها بروزا عدم الاهتمام بالصورة على الإطلاق، وإعادة تعريف طابعها الامبراطورى من قاموس العصابات أو الدول المارقة، قفزا على الحد الأدنى من المواءمة والإتقان، وإيغالا فى الانكشاف والمجاهرة الفجة.
حتى أنها لم تعد ظالما لحسابها؛ بل تنوب عن الظالم وتتحمل خطاياه، وإن تكبّدت لقاء ذلك أعباء حاضرة على صعيد المكانة والضمير، ومخاطر مُقبلة فى المصالح وشرعية القيادة واستدامة نظامها الكونى الآخذ فى التداعى.
ذهب السيد دونالد إلى المُنظّمة بحُكم الاعتياد، ورغبة فى فسحة إضافية للاستعراض وتعداد حسنات إدارته. والمعروف أنه لا يُحب الأمم المتحدة، ويتمرّد على أدوارها الميثاقية، كما لا يُفوّت فرصة لخَنقها أو تحييد فاعليّتها.
رؤيته تنحصر فى أن تكون محفلاً دبلوماسيًّا مُنمّقًا، ولا تنشغل بقضايا السلم والحرب والمجاعات والأوبئة، ولا بإعانة المُجتمعات الهشّة على تخطّى أزماتها. أى أن تكون حديقة خلفية للبيت الأبيض، وإن لم تكن رصيدًا له؛ فأقلّه لا تكون حجّة عليه.
فرّغ محمول كلمته الطويلة بكثير من ضمير المتكلم، وقليل جدا من الضمير فى صورته المُجرّدة؛ ثم استدار إلى اللقاءات الثنائية والجماعية المُكمّلة للأجندة، وكان منها اجتماع مع قادة ورؤساء وفود دول عربية وإسلامية، استهلّه بالقول إنهم سيبحثون ملف غزّة؛ وقد يتوصّلون إلى إنهاء الحرب. التقوا وتفرّقوا ولا شىء تغيّر، وما تزال ورقة الهُدنة معروضة على الطاولة، والقرار فيها مُعلّق على استقبال نتنياهو، أو بالتحديد على ما سيقضى به التابع ويفرضه على المتبوع.
كثيرون يحلو لهم اختزال العُقدة فى زعيم الليكود، والارتياح إلى أنه يخوض معركة شخصية، ويُعمِّم خياراته على حُلفائه ومُناوئيه فى الداخل، وعلى رُعاته والمُتضررين من أدائه فى الخارج. والطرح صحيح بنسبة فعلاً؛ غير أن التجرُّؤ على القانون والإنسانية والنظام الدولى لا يتساند لقوّة «بيبى» أو ثقته المفرطة؛ بل لشبكة الأمان المُسبَلة عليه من جانب واشنطن، أكان برخاوة بايدن سابقًا، أم بتواطؤ ترامب فى الوقت الحالى.
عندما أراد الهُدنة فرضها على الجميع، وقبل أن يحل على مقعده من الأساس. هدّد حماس وألزم حكومة اليمين فى تل أبيب، فكان له أن يعبر موكب التنصيب فى يناير، حاملاً جائزة الإنجاز فى الشرق البعيد. وما عقده الجبّار لا يحلّه الصغار بدون إرادته، أى أن سقوط الاتفاق قبل الوصول لمرحلته الثانية كان مُتّفقًا عليه، أو مقبولاً على الأقل من صاحبه ومالك حقوقه الحصرية. وإهدار ستّة أشهر من وقتها لا يُمكن أن يكون بدون ارتضائه، أو لغرض فى نفسه، يستخدم فيه قبضة الاحتلال، ويضغط على الفصائل، ويُلاعب القوى القريبة والنافرة منه فى المنطقة.
والغريب الذى يؤكّد ذاك الوفاق المشبوه؛ أن مبعوثه الأول ستيف ويتكوف تخلّى عن ورقته المُقترحة لوقف النار وتبادل الرهائن، وقال إن الحرب قد تنتهى بحلول نهاية العام. قالها فى يوليو، ولم تكن خاتمة 2025 قريبة، ولا مأساة الغزّيين تحتمل الانتظار.
العودة الوحيدة للاقتراح طفرت فى مطلع الشهر الجارى؛ ثم اكتُشف لاحقًا أنها كانت خديعة مُرتّبة. لأن واشنطن طلبت ردًّا سريعًا من الحماسيِّين المُوزّعين بين الدوحة وأنقرة، وعندما تجمّعوا فى العاصمة القطرية قصفتهم طائرات الصهاينة، لا لرغبة فى عقاب المسؤولين عن الطوفان كما يقولون؛ بل لإفساد خطط التسوية وإدامة الميدان مُتأجّجًا.
كان الطوفان مصيدة حماس، وحقل الألغام الذى استُدرجت إليه بقيّة قوى المُمانعة. ومنه تحرّكت الخرائط وتبدّلت التوازنات الإقليمية، ولن يُفرّط الاحتلال فى النار؛ إلا لو ضَمِنَ العوائد نفسها بعد الإطفاء. وفى هذا يتلاقى ترامب مع نتنياهو؛ لأن إسرائيل أصل ثابت من المفيد تقويته دائمًا، وكلّما استأسدت تضغط على أعصاب الجميع فى مُحيطها، بين دول وطنية تسعى لاستقلال قرارها، أو مراكز مالية ستتحصّن بشراء صكوك الأمان.
حضرت السردية الإسرائيلية على منصّة الأمم المتحدة قبل موعدها فى جدول الأعمال. حملها الرئيس الأمريكى معه، وأفاض فى تكرار بنودها الساقطة، وما خفى أعظم بالطبع. والنزاع لم يعُد على سلاح الفصائل وحدها، ولا تفكيك السلطة الوطنية طمعًا فى تصفية القضية؛ بل يتحوّر ويأخذ طابعًا عالميًّا، ويزداد فيه الخصوم المعنويّون بازدياد المُعترفين بالدولة الفلسطينية.
وعند تلك النقطة تحديدًا، نحتاج للنظر إلى الصورة من زاوية أوسع؛ حتى لا يتغلّب الانفعال على التعقُّل، أو يُكتفَى بالعاطفة عن الفعل المُثمر. ذلك أن عدد الاعترافات لا يُشكّل فارقًا حقيقيًّا، طالما لم يُرفَق بإجراءات ملموسة على الأرض، وبمقدرة على تفعيله أو تطويق نوايا العدوّ ونهمه لابتلاع الجغرافيا، وشعوره بمثالية الظرف لتجريف الأرض وتعريتها من طبوغرافيتها البشرية.
مرّت نحو أربعة عقود على إعلان استقلال فلسطين من طرفٍ واحد، وتزايد المُعترفون بها من يومها، وصولا إلى زهاء 147 دولة قبل الموجة الأخيرة. والثابت أنه لا قيمة لكل هذا من دون توقيعه على الخرائط، أى أن تعترف به سلطة الاحتلال، ومن قبلها وبعدها الولايات المُتّحدة طبعًا.
ولا يُمكن إجبار الصهاينة على الإقرار بوجود الفلسطينيين أصلا؛ ثم النزول على إرادتهم وإرادة العالم باستحصالهم على حقوقهم المشروعة؛ إلا لو كانت كُلفة الحرب الأبدية أكبر، والخسائر مع «حل الدولتين» أقل. والأولى شبه محسومة ميدانيًّا بفارق القوّة، ولا سبيل للإقناع بالثانية طالما لا يتقبّلون النقاش فيها أصلاً، ومن ثمّ فالحلول شبه معدومة من داخل فلسطين، ولا أمل فيها إلا من وراء حدودها بالكُليّة، السائل منها أو المُسيّج بالنار والدم.
وفى تلك النقطة؛ ستكون وقفة نتنياهو على المنصّة الأُمَميّة مُهمّة وذات دلالات عميقة. ليس لجهة ما سيُظهره قولاً، أو يُضمره وتُصرّح به ملامحه؛ إنما لحصيلة الرموز والإشارات التى سيُعبّر عنها الحضور، ويستخلصها المُتحدّث من فضاء القاعة وردود الفعل.
سيكتشف المُتفائلون أن ميزان العالم لم يعتدل بعد، والوقائع ليست بالكيفية والدلالات التى نراها عليها. بمعنى أن حصّة غالبة من المُعترفين بفلسطين لا يرفضون جرائم إسرائيل صراحةً، أو يُعبّرون عن الرفض لفظًا ويُطبّعون معها سلوكًا. وليس أدلّ من أن بريطانيا مثلاً استبقت موقفها الاعترافى مؤخرا، باستقبال الرئيس الإسرائيلى إسحاق هيرتسوج، وما لوّحت له بالغضب ولا عقّبت على أكاذيبه التى ردّدها فى قلب لندن.
كثيرون يقتنعون بعدالة القضية، ولا يُشكّكون إطلاقًا فى أن للفلسطينيين حقوقًا يجب استيفاؤها؛ لكنهم غير مُستعدّين لنُصرتها إلا بحساب، وربما غير مُستعدّين من الأساس. الاستفاقة الدولية طارئة لا أصيلة، ووقودها حِدّة عمليات الإبادة وارتفاع كُلفة الدم فى غزّة، وأقرب الظن من سابقة الخبرات أنها ستنطفئ سريعًا بمُجرّد وقف الحرب، وستعود إلى اعتيادها القديم مع منسوب أقل من القتل والإرهاب.
وقد لا تكون حماس مُتشدّدة فى مواقفها؛ إلا لعِلمها بأن الزخم المُتّقد من شرايين الأبرياء ومعداتهم الخاوية، قصير العُمر والصلاحية، وعليها أن تستحلبه إلى المدى الأقصى، وأن تنتزع اتّفاقًا بالوقف الدائم لإطلاق النار من نقطة الذروة، وليس بعد الذهاب إلى هُدنة مؤقتة تخفُت فيها حماسة الحكومات والشعوب، ويعود البشر فى أركان الدنيا إلى حيواتهم الطبيعية.
سيكون مُعدّل الانصراف من القاعة مع كلمة نتنياهو إشارة مُهمّة، بجانب أن يُنقَل إليه إحساس الرفض والاحتقار، وأنه سفّاح مُنحط ينوب عن دولة منبوذة. وبقدر ما ستتضاءل ظهوراته العلنية، وتضيق حزمة لقاءاته الثنائية مع القادة المُشاركين؛ سيتجلّى حجم الغضبة السياسية والإنسانية الصادقة، وسيعود حاملاً معه أمارة على تضرّر موقع إسرائيل اليوم، وما يتهدّد علاقاتها ومصالحها فى الغرب.
ولا أريد أن أكون مُتشائمًا؛ لكن الواقع أن الباقين فى القاعة سيكونون أكثر من المُغادرين، وأن قادة دُوَل كبرى سيُرحّبون بلقائه لو أراد، وسيظل الخطاب مقسومًا على اثنين: رفض الحرب مع الدعوة لحل الدولتين، ورفض حماس مع دعم حق إسرائيل فى الأمن والدفاع عن نفسها، ما يجعل كل اعتراف بفلسطين مشمولاً باعتراض على صيغة النضال الفلسطينى الحالية، وكل انحياز للضحايا مشمولاً بثغرةٍ رمادية ينفُذ منها الجُناة.
تبدو المُنظمة أضعف الأطراف على الإطلاق، وكل ما فى وسعها قدّمه أمينها العام أنطونيو جوتيريش، وليس لدى الرجل المزيد. بُنِى النظام الدولى على أن يُحبّ ما تُحبّه واشنطن، ويكره ما تكرهه، ومن ثمّ فليس فى إمكان الرئيس الروسى أن يصل إلى نيويورك، ويُمنَع الوفد الإيرانى من التجوّل بعيدًا عن المقر أو التسوّق فى شوارع المدينة؛ لكن السفاح المطلوب فى اتهامات جنائية، والمُدان صراحة وضمنيًّا بمواقف أغلبية الأسرة الدولية، يحلّ ضيفًا عزيزًا على الولايات المُتّحدة، ويُهان العالم كله بإجباره على الاستماع إليه من منصّة يُفترَض أن تكون مساحة جليّة للتحضّر والقانون؛ أو على الأقل ألا تكون أداة لغَسل السمعة وتبييض وجوه النازيين.
يفتقد النظام الدولى وهجه القديم، وتتزعزع مكانته؛ لكنه لن يسقط قريبًا كما يتصوّر البعض، ولن يؤول إلى صيغة مُتعددة الأقطاب أيضًا. فكرة القطبية نفسها لا تحتمل إلا أن تكون لواحدٍ أو اثنين، والجنوب يختلفون فيما بينهم بما لا يقل عن اختلافاتهم مع الشمال، والفارق عريض للغاية بين الولايات المُتّحدة وأقرب المُنافسين.
لا مفرّ من الاكتواء بنار التجربة إلى آخرها، ولا معنى لإبقاء نقاط الضعف بارزة من جسد القضية، وإعانة القاتل على القتيل باستخفاف المُغتصبين للقضية والمتحدّثين باسمها. العالم يفيض بالمواجع، ويتحرّك بقدر الحاجة حتى لا يفقد ضميره وتوازنه النفسى؛ لكنه لن يلتفت لقضايانا أكثر منّا، ولن ينصرنا ما لم ننتصر لأنفسنا أوّلا.
الاعترافات مهمة، والدعوة إلى لجنة مُتابعة مُنبثقة عن مؤتمر حل الدولتين أهم؛ إنما لا يغنى ذلك عن ترميم الجدار الفلسطينى، وصياغة رؤية عربية وإسلامية جامعة، والتحرّك باتجاه تخليص القضية من أدرانها، وانتقاء وإبعاد الثغرات والعناوين الضارّة بها والمولّدة للذرائع لدى خصومها. السفاح سيقف على المنصة، وسيعودّ مرّة بعد أُخرى كما عاد اليوم. قد تختلف الوجوه والأسماء؛ لكن اللعبة ستظلّ سهلة عليه لأننا نبدأها دومًا من نقطة الصفر. البداية الجادة الآن بالقطيعة مع ما كان، والاهتمام بما يجرى خارج الملعب، بأكثر من التركيز على التوازنات المُختلّة أصلاً بين النهر والبحر.
حازم حسين
عندما يقف السفاح على المنصة.. الأمم المتحدة وإهانة العالم بإجباره على الاستماع لنتنياهو
الخميس، 25 سبتمبر 2025 02:00 م