حازم حسين

فلسطين بين الشرعية والاعتراف.. عن الدولة القائمة بقوة القانون والمُغيّبة بقانون القوة

الأربعاء، 24 سبتمبر 2025 02:00 م


تختبر القضية الفلسطينية فصلا مغايرا لكل ما مر عليها سابقا، ومن طول الفصول وتعددها ظلت الجملة نفسها تتكرر مع كل أزمة تنزل على رأسها. قبل النكبة وبعدها، ومن نكسة يوليو إلى تفاهمات أوسلو، وصولا للطوفان وتداعياته فى السنتين الأخيرتين.

منذ وقعت تحت رحمة الاستثناء، صار الأصل أن تتعقد الدراما وتتشابك فيها الخيوط وتلتف على نفسها، بينما يتبدّل عليها الكتّاب بنوايا وأهواء شتّى، واختلاف بيّن فى الرؤية والإرادة والمهارات، ما يجعل التشابه بين المراحل طبيعيا، والارتباك متوقعا، والخطوة الواحدة نفسها قد تقود إلى الأمام حينا، أو تردّها للخلف أحيانا.

وُلِدت المحنة فى المشاع، ومن دون أوراق ثبوتية. كانت فلسطين حاضرة فى وعى أبنائها؛ لكنها غائبة عن الخرائط.

خرجت من تركة الامبراطورية العثمانية المريضة، إلى عصمة الانتداب البريطانى، واستُثنيت لغرض مسبق من ترتيبات سايكس بيكو وسان ريمو. فنشأت الدول الوطنية من حولها، طُبخت على نار هادئة أو بالصراعات وخطوط النار، لكن المساحة ما بين النهر والبحر أُبقيت فضاء سائلا؛ لتكون جاهزة لسردية «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».

تفتّقت حيل المحتالين عن صيغة تحقق الندية والتكافؤ حسب تصورهم، بمعنى أن ينطلق الخصمان فى السباق من النقطة نفسها: جغرافيا مديدة محايدة، أو مُجبرة على الحياد، وبشر من لونين مختلفين يختصمان فيها وعليها.

ومع فارق الجاهزية والاستعداد، ويقظة الغرب إزاء غيبوبة العرب ومناماتهم الإجبارية، تقدم الوافد على المالك الفعلى، وقطعت أشواطا بعيدة على طريق الدولة، فيما كان الفلسطينيون يبتعدون.

اختُرعت إسرائيل من العدم؛ على أجندة تيودور هيرتزل، وبرغبة أوروبا فى الخلاص من عبء المسألة اليهودية، ومن شعورها بالذنب عن وقائع الهولوكوست.
منحت ضحيتها المباشرة تصريحا بالقصاص من أبرياء آخرين، وبأن تكون جانيا بالطريقة نفسها على بيئة لم تكن طرفا فى المأساة. ومن يومها صار التاريخ سلسلة من المآسى، تُنتج فى الحاضر وتتحصن بالماضى، وتردع صُنّاع المشكلة عن أن يكونوا طرفا فى الحل.

إن موجة الاعترافات الجديدة بالدولة الفلسطينية حدث مهم بالتأكيد، ولا يطعن فى أهميته أن يكون معنويا بالدرجة الأكبر، أو غير قابل للإنفاذ عمليا فى أى وقت قريب.

وأثمن ما فيه أنه توبة متأخرة، واعتذار عن الخطايا القديمة بأثر رجعى، مع ما ينطوى عليه ذلك من طعن فى السردية المنشئة لفكرة الوطن القومى لليهود، وتعرية حادة؛ ولو من دون قصد، لكل المقدمات التى أفضت إلى تلك النتائج الراهنة.

كأن بريطانيا تقول إنها لم تكن صانعة للجرح وراعية لأوجاعه فحسب، بل شريك أصيل فى كل ما جرى ويجرى جرّاء صمتها الطويل، ويقول الآخرون أيضا بنسب متفاوتة، وبما يتواءم مع مواقعهم على خط الجريمة من البدء للمنتهى، حتى الذين حافظوا على موقف أكثر إنسانية نسبيا، كحال فرنسا، لا يُنسَى لهم ما جنوا به على المنكوبين بالانحياز أو الرمادية، والأخيرة مثلا شاركت تل أبيب فى العدوان الثلاثى على مصر، وأسّست لها برنامجها النووى من وراء ظهر الولايات المتحدة وفوق أنف القانون والضمير والتوازنات السياسية البيضاء.

وما لم تُرفَق الخطوة بإجراءات عملية ملموسة؛ فستكون والعدم سواء، أقله فى الفصل القائم من غطرسة الغاصب وتراجيديا المغصوبين. لا سيما أن الاعتراف يُرتَّب التزامات على المعترفين، أهمها ألا يُمرّروا سياسات الاحتلال والاستيطان وقضم الأراضى وإلغاء الوجود الفلسطينى، وإن كان عصيا عليهم نصرة الحق بالقوّة، فما من مسوّغ للتقاعس عن التصدى للباطل بالسياسة والدبلوماسية.

ورغم أننى لست مع المقللين من أثر الاعترافات؛ فلا أقف أيضا فى صف المهولين من أثر الخطوة وعوائدها فى الحال والاستقبال. لعلّها قفزة واسعة نسبيا؛ لكن الطريق ما تزال طويلة، وغائمة، والآمال دونها تعقيدات ومؤامرات، وسطوة يمارسها القطب الأكبر لصالح حليفته الصغيرة الساقطة.

كما لم يعُد الغرب الأوروبى رقما صحيحا فى المعادلة، وقد استتبعته واشنطن عقودا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم أعفاه ترامب مؤخرا من رتبة الشريك مع الفارق، إلى درجة أدنى كثيرا، ولا يملك فيها من أمره الخاص شيئا.

والنقطة المحورية هنا تتخطّى فلسطين وقضيتها، لتقع رأسا فى مجال الحديث عن النظام الدولى القائم على القواعد، وقد ابتُكر بتصوّر أمريكى عن أبدية السبق والإمساك بزمام العالم، وصار حديثا يتلقى الضربات من كل جانب تقريبا، أوضحها طموح القوى الصاعدة من دول الجنوب، وعدم رضاها عن المعادلة الظالمة باُفقها الاحتكارى القديم.

لكن أقساها وأشدها غرابة أن الولايات المتحدة نفسها لم تعد راغبة فى قيودها الحريرية القليلة، وتستعيض عنها بالحمائية فى مجال الاقتصاد والتجارة، وبالعودة إلى منطق الثنائيات المباشرة فى العلاقات الدولية، بعيدا من كل أُطر التنظيم والتحالفات الأممية والإقليمية المعتادة.

ومن هذا المنطلق؛ فإن عقبة القضية الفلسطينية على طريق استيلاد الدولة الضائعة لم تعد محصورة فى تأمين أوسع مجال ممكن من الاعترافات، أو ممارسة ضغوط قانونية ودبلوماسية على الاحتلال ورُعاته الأمريكيين؛ إنما فى فتح قناة اتصال مباشرة مع واشنطن تقود إلى موافقتها على الولادة أصلا، وإضافة عضو جديد للأسرة الدولية التى يكفى «فيتو» واحد لإطاحتهم جميعا عن الطاولة ومجال النظر.

والحديث ليس عن حجية قانونية كانت مفقودة وتُستكمَل؛ ذلك أن فلسطين لم تكن خارج المشهد على الإطلاق فى أية لحظة سابقة. عمليا تتجسّد الدولة على الأرض رغم الخنق والحصار، تحتمل التنكيل والإبادة، وتدافع عن وجودها طوال العقود الماضية باللحم الحى.

ونظريا أيضا، ومن منظور المنطق القانونى؛ فإنها تحمل شرعيتها معها كما حملت نكبتها، ومثلما خُطّط لأن تُعرّى من وجودها المعنوى قديما، لينطبق عليها ما كان ينطبق على العصابات الصهيونية الهُمّل وقتها؛ فإنه يصح بحقها ما صح بشأن إسرائيل بعد قيامها واكتساب شخصيتها الاعتبارية.

لقد نص قرار التقسيم رقم 181 فى خريف العام 1947. ورغم أنه كان منحازا أصلا، ولم يقسم بالعدل ولا حتى بالتساوى، إن كان لجهة أن الفلسطينين أصحاب الأرض أو أنهم أكثر عددا؛ فالمهم أنه اختلق الكيان المُلفق مشمولا بصنوه الحاضن للسكان الأصليين، بمعنى أنه تحدث عن دولتين لشعبين، وقد ماطل آباء المشروع الصهيونى طويلا فى تلك النقطة، وعُلّقت عضويتهم الكاملة فى الأمم المتحدة؛ حتى اضطروا للرضوخ والتسليم بالأمرين معا.

والقصد؛ أن فلسطين تأسست فى نسختها الجديدة المبتسرة فى اليوم نفسه، وتُلازمها الشرعية من وقتها بأصوات الداعمين للقرار بمن فيهم إسرائيل، وبكل عضو التحق بالمنظمة بعدها مُرتضيا حاكمية الميثاق والفلسفة وسوابق القرارات المتخذة فى شؤون العالم.

أما مسألة التفعيل واستكمال ثالوث الوجود الدولتى؛ فيجوز فيها الكلام والجدال، وهى وحدها المعرضة للتشغيب والمنغصات من جهة الاحتلال وداعميه، والذين تضاءلت أعدادهم وما تزال، وأخطر من انصرافهم فى المصفوفة العالمية عن الوقوف على خط واحد مع الصهاينة؛ أنهم كفروا بسرديتهم أصلا، ولم يعودوا مقتنعين بأصالتها أولا، ولا بصلاحيتها وإمكانية أن تتناغم مع شروط العالم الحر، أو تكون قابلة للوجود وقادرة على التعايش مستقبلا بصيغتها الحالية.

وخروجا من التفكير المنطقى فى عالم بلا منطق؛ فقد كان الإصدار الثانى للتجربة فى أواخر الثمانينيات، عندما أعلن عرفات ومن خلفه منظمة التحرير عن الدولة من طرف واحدٍ، وتوالت الاعترافات على طول تلك الفترة، من العرب وغيرهم فى آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، مرورًا بإسرائيل نفسها عندما أقرّت فى أوسلو بالمُنظمة ممثلاً وحيدًا، وتقبّلت السلطة الوطنية مُفتتحًا للإدارة الذاتية على وعد الاستقلال الكامل، وصولاً إلى الاستفاقة العالمية الأخيرة بعد «طوفان السنوار» ومحرقة غزّة، وقد افتُتِحت بإسبانيا وأيرلندا والنرويج ربيع العام الماضى، وتتصل إلى الساعة فى مؤتمر حل الدولتين، وربما لن تتوقف فى قادم الأيام.

يكاد العدد حاليا يُلامس مستوى 160 دولة، من نحو 193 عضوا فى الأمم المتحدة. أى أن قرابة 83% من حكومات الأرض، وأكبر من تلك النسبة فى الجغرافيا والديموغرافيا، بالنظر إلى أن بعض المُمتنعين عن الاعتراف حتى الآن مُجرّد دول جُزرية صغيرة، وأسماء ورايات بأكثر من كونها بلدانًا ومجتمعات حقيقية. إلا أن الولايات المُتحدة تفرض إراداتها بتوحُّش على الجميع؛ ولو بقيت وحدها بجانب إسرائيل فى خانة الرافضين.

والحال؛ أن كل بلد لا يعترف بفلسطين يطعن فى شرعيته بيده، أضعاف ما يمسّ القضية وشرعيتها وحقوقها العادلة، فضلا على أنه يُطوّق إسرائيل نفسها بالقانون الدولى، ولو تكاتف معها بالمُساندة فى الإبادة والصمت عليها.

ذلك أن قرار التقسيم المُشار إليه سلفًا يُلزم كل المُنخرطين فى المنظمة وقتها أو فيما بعد، ويجعل من إنشاء الدولة الصهيونية ولادة منقوصة، وتفعيلاً لنصف الوثيقة مع إهدار نصفها الثانى، وبغير الجُزأين معًا لا يكتمل الإطار المعنوى الداعم لها؛ ولو فرضته ماديا على الجميع بالقوّة الغاشمة.

ومُراد الاعترافات أن تتشكّل قوّة ضغط على الإرادة الأمريكية المُطلقة، لتمرير فلسطين من قناة مجلس الأمن؛ ذلك أنه السجل المدنىّ الوحيد لتسجيل المواليد الجُدد. غير أن الدولة سابقة عليه أصلاً، وقائمة بقوّة القانون الحاكم للمُنظّمة الأُمميّة كلها، بكلّ ما نشأ مُتفرّعا عنها أو طارئًا عليها، ولا يُغيّبها عن التجسُّد الاعتبارى إلا الاحتكام ضدّها إلى قانون القوّة.

وكل ما فات ليس كلامًا رومانسيًّا أو من أحاديث المُتفائلين والمُغيّبين؛ بل البادئة الحقيقية لأى نقاش عاقل وحصيف للقضية، ولكل رؤية يُنتظَر منها أن تكون مُتماسكة ومُحفّزة على الحركة أوّلاً، وضامنة للوصول فيما بعد.

ولا يغيب عنّى كغيرى أن الشرعية مضفورة مع القدرة فى جديلة واحدة؛ ولا سبيل إليها بالضعف ولو رفعت قوانين الدنيا وحازت قبول العالم بأسره. إنما لا يعنى التعرّض لمظالم النظام الدولى فى أشدّ وجوهه وقاحة وتبجُّحًا؛ أن ننصرف عن الأصول والجذور القارّة تحت جلد المأساة، ولا أن نفقد إيماننا بالحق فى صورته المُجرّدة النقية، أو نتوقف عن الخيال، ومقاومة الواقع الردىء بالمثالية الكاملة؛ بوصفها الجدار الأخير وغير القابلة للاختراق، مهما مَكَر الماكرون أو ازدادت الأوضاع سوءًا.

يعرف الفلسطينيون أنهم يخوضون صراع وجود لا حدود، وأنه طويل وشاق ولن يُحسَم فى المدى المنظور؛ إنما لا يفقدون إيمانهم لمُجرّد أن العدو تضاعفت شراسته، أو أن الشقيق أخذته العزّة بالإثم وأوردهم موارد التهلكة.

وبقدر ما سدّدوا فواتير اليقظة الدولية من شرايينهم المفتوحة؛ يعرفون قطعًا أن الخطوة الضئيلة على طريق الأمل من حصاد مُكابداتهم، لا من عوائد نزق حماس وتبعيتها واستخفافهم بالبشر والحجر. والقصدُ أنهم لا يتلقّون مكرمة من الدول المُعترفة بهم الآن، ولا تنقص خصومتهم شبرًا أو حبّة خردل مع اليمين المتطرف على الناحيتين.

اتّقدت الساحة الدولية بأثر الإبادة وما تنطوى عليه من إهدار للإنسانية، وحطّ من قيمة البشر إلى مرتبة أدنى من الحيوانات الجارحة.
ساخنةٌ، أعصاب الأمم الكُبرى الآن، وعمّا قريب ستفتُر أو تنطفئ. ولن يتبقى للغزيّين وإخوتهم على الجانب الآخر من الجغرافيا المُتشظّية؛ إلا أن يركنوا للجدار الفلسطينى ويُعوّلوا على ذواتهم أوّلاً، وأن يلتمسوا الحاضنة الأمينة من جوارهم القريب، ومَن اختبروا صدقيتهم وإخلاصهم للقضية، وأنهم لا يتّخذون منها شعارًا لسَتر أيديولوجيا، ولا ورقة للتفاوض على منفعة دنيئة.

قُدِّمت نُذور الدولة كاملة، فى القديم والجديد، منذ أُجبِرَت على إفساح الشطر الأكبر من جسدها لوافدٍ لا يمُتّ لها بِصِلَة، مرورًا بالإجلاء واستباحة الدم على فواصل مُتقطّعة، وإلى محرقة غزة وما ترسمه من خطٍّ فاصل بين مرحلتين زمنيتين، ومنطقين فى السلوك ينبغى ألا يبقى المقاوم فيهما على حاله السائدة، ولا أن يعود المفاوض إلى مُعتاده الرتيب.

ما يفرض أن يعترف الفلسطينيون بفلسطين أوّلاً وقبل الآخرين، وسداد ما يتوجّب عليهم للتدليل على الاعتراف وإنفاذه عمليا، وبوعىٍ صافٍ بأن الدول بالأساس مخارج لتوفيق التناقضات، ومساحة مُشتركة ينزل فيها الجميع عن أناهم العُليا؛ لصالح بوتقة ينصهر بشرها جميعًا فى عنوان وحيد.


وخُطة الاعتراف الذاتى تتأسّس وجوبيا على القطيعة مع الماضى، القريب منه والبعيد، والنظر إليه بتجرّد وموضوعية؛ ولغرض الفرز وانتقاء ما يصلح، وإبعاد ما كان ضارًّا أو صار يُشكّل عبئا على الحاضر البائس والمستقبل المأمول.

ولا يُقصَد من الطرح أن تُسقَط ورقة السلاح تمامًا، ولا أن يُصار فى السياسة بخفّة الملاحين القُدامى واستخافهم، مع التيقُّن من انقضاء الزمن الذى يصح فيه أن تظل البندقية عنوانا للقضية أو حكمًا على أهلها ونضالاتهم بتنوّعاتها الواسعة، أو أن تبقى مُنظمة التحرير على حالها؛ بينما تُواجه سياقًا غير ما نشأت فيه، وتتعرّض لتحديات أصعب من كل ما اختبرته أو تجهّزت له فى عقودها الماضية.

كان حلول الرئيس عباس على فضاء مؤتمر حل الدولتين مُعبّرًا عن التعقيدات كُلّها فى صورة واحدة. اضطُر لمخاطبة المُجتمعين بشأن دولته عبر الفيديو، بعدما منعته إدارة ترامب من الوفادة لنيويورك والمشاركة واقعيًا فى الحدث وأعمال الجمعية العامة.

وبالمثل؛ تختبئ عناصر حماس فى أنفاق غزّة، أو تُقصَف فى فيلات الدوحة الفاخرة. القضية موجودة اسمًا وثِقَلاً إنسانيًّا ثقيلاً؛ لكنها مُغيّبة رسميًّا فى جناحيها: السياسة والسلاح، ولم ينفع أحدهما الآخر؛ بل أضرّا ببعضهما وبالذات إلى مستويات فادحة، ويغيب عنها أى شعور بالعقل والاستقامة الوطنية أصلاً.
قال الرجل إنهم يعترفون بحق إسرائيل فى الوجود، ومن حقّهم أن تكون لهم دولة مُستقلّة، متقدّمًا إلى الأمام كثيرًا بقبول أن تكون محدودة ومنزوعة السلاح، وتحت ترتيبات سياسية وأمنية متفق عليها؛ ولو كانت ضاغطة.

لا شىء أقسى من الاحتلال الراهن، والمراوحة بين الحضور والغياب، الوجود والعدم، والوقوف على حرف الحياة فيما يتخطّفك الموت والفناء من كل جهة. وحماس ورديفاتها لن يتقبّلوا الفكرة قطعًا؛ والذين يُموّلونهم ويُشغّلونهم سيُوعزون لهم بالقدح فى التصور الاستسلامى الانهزامى المقيت؛ كأنهم لم يتسبّبوا فى هزيمة أنفسهم وغزّة والقضية والإقليم بكامله للأسف.

لا يكفى ما تتعهّد به السلطة بشأن الإصلاح دون ملامح واضحة، أو الذهاب إلى انتخابات عامة، تشريعية ورئاسية، فى غضون سنة من وقف العدوان على غزّة. تحتاج رام الله إلى تجديد دمها، ولديها من الكوادر المُؤهّلة لهذا الكثير، فى الداخل والخارج وبين أروقة وزاراتها ومرافقها التنفيذية والدبلوماسية.
يجب احتواء حماس وبقيّة الفصائل النافرة، وأن ترضخ الأخيرة لأجندة المنظمة وميثاقها والتزاماتها، ولا تكون عبئًا عليها أكثر ممَّا فات، ولا ذريعة فى فم نتنياهو ورصاصة فى بندقيته؛ وقد تأكّد بالممارسة العملية أن بقاء الحركة على تصلُّبها لم يُنقذ بريئا، وأن رحيلها اليوم لن يزيد المخاطر الداهمة المُحلّقة فى سماء القضية عمّا هى عليه بالفعل.

يُفتَرَض أن يلتقى الرئيس الأمريكى قادة ورؤساء وفود ستّ دول إقليمية فى نيويورك، بالتزامن مع مثول الجريدة للطبع مساء الثلاثاء أو إرجائه للأربعاء، بينما يتردد أن بريطانيا وفرنسا يحاولان إقناعه بورقة جديدة بشأن الحرب على غزة.

يُقال إنه سيطرح تصوّرًا عن التسوية فى القطاع، ابتداءً بالهدنة وتبادل الأسرى وإلى ملامح اليوم التالى من دون حماس، ولا يُؤتَمَن الرجل حقيقةً على فكرة أو موعدة؛ لا سيما أنه ضُبِط مُتلبّسًا بإخلاف الوعد مرّات عدّة، ولعب دور الخداع والتضليل لصالح إسرائيل قبل قصف إيران، ثم غضّ الطرف عن هجومها على الدوحة، وتولّى احتواء تداعياته وتبريد الغضبة العربية وفى القمة المشتركة مع منظمة التعاون الإسلامى لاحقًا.

سيقول الكثير ويفعل القليل، وقد يصدق بحلول نهاية العام أو قبل ذلك؛ لكنه لن يسير فى السياسة إلى منتهاها الطبيعى والشرعى، والمُتّصل وجوبًا بحل الدولتين وإقامة فلسطين الحُرّة المستقلة. إن كان لتصوّرٍ أمريكى عن حال المنطقة وآخر ما يُقبَل لها جيوسياسيًّا، أو لمُراعاة أهواء اليمين المتطرف فى تل أبيب، ومصالح نتنياهو وعصابته من القوميين والتوراتيين.

تُشكَر فرنسا على موقفها الأخلاقى، وتدفيعها الذى شجّع غيرها وقاد إلى مؤتمر حل الدولتين؛ لكنها خطوات معنوية لن تُفضى إلى شىء غالبا؛ طالما لم يتوافق الداخل الفلسطينى، أو يتلاقى المحيط العربى على رؤية جامعة؛ وكلاهما لا يبدو فى المُتناوَل القريب للأسف.

انتُزِعَت فلسطين بالمكر ثم القوّة، وسعى المُناضلون الأوائل إليها بمقلوب المُعادلة؛ فساروا تحت ظلال البنادق أعوامًا سوداء دامية، واضطرّوا لاختبار المسألة من نطاق جديد. أبو مازن اليوم ليس أُحدوثة ظرفيّة لأُناس يُحبّون المُهادنة والتفريط؛ بل حصيلة عقود طويلة سبقه فيها عرفات ورفقته المقاتلون، وانتهى أغلبهم إلى عِداد الضحايا أو استراحة الحُكماء. والفصائل الأصولية حاولت تكرار المحاولة؛ ولم تستضئ بخبرات السابقين، ولا استرعاها تبدّل الأحوال واختلاف التوازنات إقليميا وعالميا.

لا يُمكن سَلب الفلسطينيين حقهم فى النضال بكل الصور المُتاحة؛ إنما يجب تبصرتهم وإرشادهم بالوصفات الخاطئة، أو غير الصالحة فى المدى الراهن. فرنسا قالت إن اعترافها يشتمل بالقوّة نفسها على الرفض الكامل لحماس، وبقيّة المعترفين كذلك، وأغلب القوى المُنحازة لفلسطين أو الناقدة لإسرائيل من المنطقة وخارجها.

الدولة قائمة بالمنطق، غائبة عن الواقع، وما تجسّدت فى خيال أصحابها حتى الآن، وإن كان من رافعةٍ توفّرها موجة الاعترافات؛ فأن تُقنع الفلسطينيين اليوم قبل الغد أنهم فى أمسّ الحاجة لتصوّر جديد، لمُقاربة مُغايرة تماما، وعقلٍ لا تستلبه الأيديولوجيا أو تُقيده التبعية، والأهم أن القضية أقدم من رافعى رايتها، وأصلب وأشدّ رسوخًا، ولم تبدأ مع أى فصيل، مُقاتلاً كان أم مُسالمًا، ولن تنتهى بنهايته أيضًا.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب