ينظر الجميع لمأساة غزة من الخارج، إلا مصر، تعيشها يومًا بيوم كأهلها، تُعاين فيهم وقائع حقبة الجنون المتسلّطة على إسرائيل، وخفة القريب والصديق، واستخفاف الواقفين على ضفة العدو، والنائمين على وسادة الوهم والضلال.
تكبش النار من دون مبالغة: إنسانيا بالأسى على المنكوبين بجناية المحتل والمختل، وواجب إبقائهم فوق حد الحياة. سياسيا بالتوازن بين انحياز المخلص للقضية وحياد الوسيط المهموم باحتواء المذبحة. وأمنيا بما يُرتَّب له فى الكواليس البعيدة، ويتشاركه الأصوليون من الناحيتين بغباوة أو سوء قصد.
لو أحس نتنياهو بأنه يخسر، لتوقف عن انفلاته منذ شهور طويلة. والأكيد أنه لن يتوقف إلا عندما تعلو الكلفة على العائد، وهو ما لم يحدث حتى الآن. يمتلئ لأعمق دواخله بشعور القوة والمهابة، وبأنه إزاء فرصة مثالية لا تتكرر كثيرا، وينبغى عليه اغتنامها بكل كيانه، واستحلاب رحيقها حتى آخر قطرة.
ما يُرشّح استمرار الأجواء الملبدة بالغيوم، ويفرض على الساعين لمحاصرة ضبابه وضلالاته أن يبحثوا عن الشمس من أقل كوّة فى الجدار، وإن لم تكن موجودة فليخترعوها ويثقبوا حاجز الصهيونية الغاشم بكل ما لديهم من قوّة.
وإذا كان الذهن ينصرف بداهة فى الهدم والبناء إلى المعاول والآلات الحادة، فإن واقع التجربة يُشير إلى أن ما فعلته السياسة على ضآلته، بدده السلاح بكل ما فيه من عنفوان وامتلاء بيقين المقدرة والبأس.
وإن كان على طرفٍ أن يرتدّ للخلف قليلاً، ليتثبّت ويُعيد قراءة الظرف وترتيب الأوراق، فسيكون الجانب المأخوذ جَرًّا إلى المذبح منذ الطوفان، والعاجز عن ابتكار مخرجٍ باندفاعته المُتأجّجة كما لو كانت فى يومها الأول، وتختبر تلك البهجة الساذجة إبّان القفز على أسوار غزّة.
اندلعت الشرارة قبل نحو عامين. وقفت مصر على خطٍّ لم تُفارقه من وقتها، وتبدّل الناس من حولها جيئة وذهابا، أظلمت العيون واسودّت الضمائر، ثم تعاظمت أعباء الدم والإبادة، فاستفاق النائم وتزحزح المُتجمّد قليلاً.
وإذ تتجمّع الهيئة الأُمَميّة اليوم فى «مؤتمر حل الدولتين» على هامش الجمعية العامة بنيويورك، فإنها تستدعى ما استبقت به قمة القاهرة للسلام كل الأطراف، ومنذ الأسبوع الثانى للعدوان، بإعلان موقفها الراسخ رفضًا للتهجير، ودفاعا عن حق تقرير المصير، وأنه لا سبيل لتجاوز الانسداد وصفرية الصراع إلا بالدولة الفلسطينية المُستقلّة، حتى الجوار القريب لم يتنبّه مُبكّرًا، وما تزال بعض قواه فى سُبات عميق. سواء حُمِلَت الإشاحة عن عُقدة القضية الراهنة على كاهل الموقف من حماس، أو نُسِبَت الوقائع إلى رُعاة الحركة من تيّارات الشيعية المُسلّحة والعثمانية الجديدة، فإن فريقًا من المعنيِّين بالإقليم وتوازناته الجيوسياسية بدا مُنصرفًا عن الامتحان الثقيل، ومُنحازًا إلى الانخراط فى لُعبة لا تُبشّر مُقدّماتها بالخير، ولا تصبّ حتى فى خزانة السلام الاقتصادى، ومُناكفات البحث عن مساحات وأدوار.
لا حاجة لأكثر من سنتين، حتى يتبيّن الخيط الأسود من الأبيض، ويُعرَف الرجال بالحقّ ولا يُعرَف الحقّ بالرجال، على ما جاء فى الأثر.
وفيما تتصلّب مصر فى خيارها النهائى برفض التهجير على الإطلاق، قسرًا أو طوعًا، وإليها وعبرها أو إلى أية وجهة أُخرى من مسار بديل، لا تنُمّ مواقف كثيرين عن استشعارٍ للخطر، أو تقدير دقيق لطبيعة اللحظة وضغوطها. ومن تلك الثنايا والتناقضات ينفُذ الصهاينة، ويُمرِّر نتنياهو أهدافه بالاحتيال حينًا، وترويض القابلين للانقياد أحيانا.
يُختَزَل الاشتباك الراهن قهرًا فى مُعادلة ثنائية: أصولية اليمين القومى والتوراتى فى تل أبيب، تُقابلها أُصولية الحماسيين فى غزّة والخارج. والحال، أنه صراع باتّساع المنطقة، ويمسّ كلَّ عواصمها، ولو رأى البعض خلاف ذلك.
المسألة تتخطّى الإبادة وإهدار الكرامة، إلى طموح لإعادة ترسيم المجال الحيوى للدولة العبرية، والمُجاهرة بأوهام «إسرائيل الكُبرى» المُمتدّة جزئيًّا لستِّ دُوَل، فضلا على كامل فلسطين. والأخطر تلزيم القيادة للصهاينة، واستتباع بقية القوى الوازنة رأسًا عبر علاقات ثنائية مُختلّة، أو بالوكالة من قناة واشنطن وتحت رعايتها المُطلقة.
لا أولوية تتقدّم على استنقاذ الغزيين من نكبتهم الثقيلة، لكن الطريق لتلك الغاية تمرُّ وجوبًا من كابينت الحرب وأنفاق القسّاميين. قطّ يُطارد فأرًا، والأخير تشتعل فيه النار، وبدلاً من القفز فى أقرب بركة ماء، يُطوّف على الأرجاء كلّها ليُذيقها ما أذاقته الأيام، أو افتعله بإرادة انتحارية خالصة.
وما من شَكٍّ فى أن أطرافًا عِدّة تتمنّى لو أُبيدت الحركة، وآخرون يتقبّلون مسح القطاع من الوجود طالما ينعكس هذا على المُمانَعة وميليشياتها، وهكذا يتجلّى نزق الطفولة لدى الطرفين: الفصائل بالمكابرة غير المُبرّرة، والبلدان التى تُطلّ على الوجيعة كأنها تُشاهد فيلمًا لا يعنيها ولا يتقاطع معها.
باختصار، يتعلّل نتنياهو بالحماسيين ليظل قادرًا على إدامة المقتلة لحين التوصّل إلى خرائط التهجير، والمُناضلون صُنّاع الذرائع ما اعتبروا بطوفان الدم طيلة الشهور الماضية، ولا استرعاهم الفخ الذى يُدَفّعون القضية فيه، وينتقلون بها من نطاق المقاومة والتنشيط والتحريك، إلى التطويق والإزهاق والزجّ بها فى مصادمة وجودية قد لا تنتهى لصالحها على الإطلاق.
وإذ يُنسَب الهولوكوست الدائر حتى اليوم إلى الإسرائيليين بالأساس، فإن اندفاعة السنوار قبل سنتين لم تكُن بعيدةً من الرهان على الفاعلية نفسها. بمعنى أن هجمة السابع من أكتوبر إمَّا أُريد منها الإيلام لا الإيذاء، وتضخّمت من دون قصدٍ، بما يُثير الارتياب بشأن كفاءة الحركة وصلابة هياكلها، أو أنها سعت منذ البداية إلى افتتاح حرب فوضوية عارمة، وانتظرت الإسناد من المُمانعين، ثم توريط دول الاعتدال، لا سيما الجوار اللصيق.
وفى الحالين، لم يكُن القائد مُستندًا إلى قواه الذاتية الخالصة، أو مَعنيًّا بالتناسُب والمصلحة، إنما سعى إلى إشعال المنطقة ليقتسم الجميع الاحتراق مع الفلسطينيين، أو تنجو حماس فى الزحام وتقتنص مزيدًا من المكاسب، لتوطيد السلطة وتعظيم المكانة والفائض العاطفى.
وأغلب المُعترفين بحل الدولتين اليوم يتطهّرون على مشارف الإفناء، ويسعون إلى تبييض وجوههم وإبراء ذممهم من الصمت الطويل. خاصة أن الخطوة لن يتبعها أى إجراء عملى، وستُضاف إلى كومة من الأوراق والقرارات المتراكمة على امتداد سبعة عقود أو يزيد.
ولا أمل إلا بانتشال غزّة من مُستنقع الدم، وكبح سرطان الاستيطان فى الضفة الغربية، وإعادة اللُحمة للمكونات الفلسطينية لتتجسّد فى كيانية واحدة، لتُسقط أثمن الأوراق من قبضة الصهاينة، ألا وهى الانقسام ودعايات غياب الشريك.
والقصد من كل ما فات، أن السياسة يجب أن تكون بديلاً فاعلا وكامل الأهلية عن الحرب، كما هى بالتعريف والممارسة أصلاً، وإلا فستنقلب عن أدوارها الإيجابية لتصير حجابا على العيون، وخنجرًا يُقطّع الوقت ويُرخِى المُهَل للصهاينة، وإن طعَن فلا يطعن إلا فلسطين، والواقفين إلى جوارها بصدقيّة وإخلاص.
ولعلّنا أحوج ما نكون اليوم إلى الفحص والفرز والمصارحة، وأن نقول بوضوح إن أغلب المواقف الإقليمية والدولية ليست على قدر الحدث، ولا تتناسَب مع ثِقَل المأساة فى القطاع، ولا ارتفاع المخاطر والتهديدات على طول المنطقة وعرضها. وما هذا عن عجز أو قِلّة حيلة، إنما عن زُهد ورخاوة، وربما لأجل المُناكفة مع القاهرة، أو استراق الأدوار منها بما لم تمنحه الجغرافيا أو التاريخ لغيرها.
وبقدرٍ أكبر من الجرأة، أرى أن كل يومٍ من دون إلزام حماس بالمراجعة والتصويب يرتدّ وبالا على فلسطين وقضيتها، وكل ساعة لا يتجنّد فيها العرب جميعًا تحت مظلّة واحدة، فى الرؤية والأهداف وتنسيق التحركات على الأقل، ستكون عبئًا مُستقبليًّا ثقيلاً على الجميع، وأوّلهم الذين يظنّون أنهم بعيدون عن طوق النار، أو فى مأمن من أطماع الصهاينة ونواياهم السوداء.
لا حدّ للإشارات المُزعجة، منذ اندلاع الطوفان حتى الآن، وكأن أطرافًا خفيّة وظاهرة تروم الزج بمصر فى مُغامرات الآخرين، وتسعى لتوريطها أو استدراجها فيما لا يخدم القضية الفلسطينية أصلاً، ولا يُراعى اعتبارات الأمن القومى ومقتضياته العُليا، ويهزل فى مقام الجد، ويتصاغر فيما لا يحتمل الصَّغار.
جاء العدوان مشمولاً بالمُزايدة، حتى لكأنهما انطلقا من بندقيّة واحدة. وعلى مدار العامين الماضيين، تعرّضت مصر لكل صُوَر الإساءة والتجرّؤ، ومن أطيافٍ شتّى لا رابط بينها إلا نسيان المُحتل والمُختل، والتصويب على البرىء تماما.
أطياف الأصولية كُلها، ثم لجان الكواليس لدى بعض المُتمدّنين، وحملة شعواء من الإخوان وصولاً للتظاهر ضدّ القاهرة فى تل أبيب، حتى أن قادة حماس انزلقوا للوحل نفسه فى أحاديث ماسخة من خليل الحيّة وبعض رفاقه المُتنعّمين فى الفنادق.
أغلق الصهاينة المُعابر، وطوّقوا القطاع على نيّة الخنق، ثم أطلقوا حناجر دعايتهم لتتهم مصر بالجريمة التى اقترفوها، وعلى دربهم صار المُغرضون شرقا وغربا. وعندما لم يفلح الوَصم مع جلاء الحقائق، بدا أن اللعبة انتقلت إلى محاولات الاستدراج، وقد كثّفت بعض المنصّات الإقليمية من رسائل الإحماء على جانبى خط الحدود المصرية الفلسطينية، وينفخ آخرون فى النار بسوء نيّة من الخارج، وحُسن نيّة أو استغباء من الداخل.
حسنًا فعلت هيئة الاستعلامات ببيانها أول من أمس، السبت، عندما ردّت على ما يُشاع عبر تقارير صحفية بشأن انتقادات إسرائيل لخريطة الانتشار العسكرى فى سيناء، ودعوتها الولايات المُتّحدة للتدخّل إزاء ما تعدُّه انتهاكًا لاتفاقية السلام.
وقد أكّد البيان بوضوح أن التمركزات الحالية كانت فى الأصل لحماية الحدود، والتصدّى لمخاطر الإرهاب والتهريب، وأنها جرت بالتنسيق مع أطراف المُعاهدة.
ولا حاجة للتذكير بأن الانتهاك يقع على مرأى العالم فى غزّة، ولنحو سبعة عشر شهرًا منذ اجتياح الاحتلال لرفح جنوبا، وفرض السيطرة العسكرية الكاملة على محور صلاح الدين «فلادلفيا» والجانب الفلسطينى من المعبر، بالمخالفة لبنود الاتفاقية عن ترتيبات الانتشار فى «المنطقة د»، ولاتفاقية المعابر الموقّعة مع الاتحاد الأوروبى والسلطة الفلسطينية عقب «فك الارتباط» مع القطاع من جانب إسرائيل قبل عشرين عاما.
ولا يُنتظَر من حكومة نتنياهو غير هذا، وأن تستمرئ الهروب إلى الأمام، ومحاولة تحميل أخطائها للآخرين. ولا شكّ فى أنها لا تُريد الحرب مع مصر، وستكون أول الساعين إلى تحاشى التصعيد، لكنها تُمارس الابتزاز والضغط على الأعصاب، وتُحاول تليين مواقف القاهرة الرافضة للتهجير على إطلاقه، ولو بتحييدها عمَّا يُخطَّط لمٌستقبل القطاع.
حطّ وزير الخارجية الأمريكى ماركو روبيو فى تل أبيب قبل القمّة العربية الإسلامية الطارئة فى الدوحة، وزار حائط المبكى «البراق» بالتزامن مع أعمالها، وعقّب ضمنيًّا على بيانها الختامى بتأكيد دعم واشنطن الثابت لحكومة نتنياهو، ثم الإشراف على إطلاق المرحلة الثانية من عملية «عربات جدعون» باجتياح مدينة غزة.
ومِمّا قاله، أنه «لو كان لبلد واحد أن يتوسّط فى إنهاء الحرب فستكون قطر»، ويُحتَمَل أنه يُطيّب خاطرها بعد التعدّى على عاصمتها، إنما يظل التأويل قابلاً لاحتمال أنه ينخرط مع حليفه السفَّاح فى لعبة الضغط والتحييد.
أُفسِدت القمة لأسباب غير مُعلنة، إنما يسهل استشرافها. صُرِف النظر عن اقتراح مصر القديم والمُتجدّد بإنشاء قوة عربية مُشتركة، وبدا أنه لا أُفق لتصوّر واحد تجتمع عليه دول المنطقة، وأن فريقا من الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، ربما ينحاز لترك فلسطين فى أزمتها، لمُجرّد ألا تتعزّز مكانة القاهرة بما يتناسب مع حجمها وفاعليتها، وألا تُوضَع نقطة حاسمة فى سطر الخطر المفتوح.
وعليه، فالموقف أكثر تعقيدًا مِمّا يتصوّر الناظرون فيه من السطح، والأبواب مُشرّعة على كل الاحتمالات من أدناها إلى أعلاها، ولا مناص خوض اللُجّة اللصيقة بنّا بأقدام عارية، وبجهد فردى خالص. وهو ما يتطلّب بناء رؤية وطنية شاملة، وامتلاك أجندة إعلامية تتكامل مع السياسة الرسمية وجهود الأجهزة الصلبة، وبما لا يُبدّد الطاقات أو يُثير الغبار فى مجال لا يحتمل النزق وألعاب الأطفال.
وهنا، يتعيّن تسجيل ملاحظة مهمة على سلوك بعض المؤثّرين على منصّات التواصل الاجتماعى، وانزلاق صحفيين وشخصيات عامّة إلى مساحة الارتجال والعشوائية نفسها، وبنكهة شعبويّة تُغازل العاطفة ولا تُقيم وزنًا للعقل، وتُلقى أعباء ثقيلة على السردية الرسمية فيما يخص أمننا القومى أوّلاً، ثم الموقف من القضية الفلسطينية، وأخيرًا طبيعة العلاقة مع إسرائيل، وما يُمكن أن تتطوّر إليه بحسب سلوك الأخيرة، وليس برغبةٍ منّا أو مُبادأة بالاقتراحات الخشنة.
وإن صحّت تقارير أكسيوس وغيره من المنصّات الغربية، فإن تل أبيب تتوجّس من القوّة النظامية واستعدادها، ولم تُشِر من قريب أو بعيد إلى صقور «السوشيال ميديا»، والنافخين فى العناوين وأنماط الأداء الفجّة والخائبة، بحثًا عن «الريتش» والعوائد المالية من المشاهدات، فكأنهم يبتذلون القضايا المصيرية مرّتين: الأولى بالاستخفاف بها فى مواضع لا تحتمل الخفّة، والثانية والأسوأ فى التربُّح منها، أموالاً وذيوعًا، ورواجًا يُرّبت على ذواتهم الهشّة، وعدم تحقّقهم، وشعورهم بانعدام القيمة والمكانة.
الحرب ليست من مصلحة أحد، ولن تكون نُزهة لنا أو لغيرنا. لا نُريدها، ونُدفّع احتمالاتها بعيدًا بكل ما وسعتنا الحيلة والتعقُّل، لكننا جاهزون لها وقادرون عليها.
نحترم اتفاقية السلام لأننا كما قالت هيئة الاستعلامات لم ننتهك اتفاقًا أو مُعاهدة فى كل تاريخنا الطويل، والجاهزيّة واجب وطنى، وضرورة تفرضها ظروف السيولة الإقليمية، وانكشاف وجه إسرائيل الوقح، وقد أُقيمت الحُجّة عليها أمام العالم بإيغالها فى التوحّش والإبادة وانتهاك سيادة الدول.
وليس على بعض الطيبين لدينا أن يتطوّعوا بإمداده بالذرائع، ولا أن يُوفّروا له مادة إعلامية يُسوّقها ويُزيف من خلالها سرديته المُلفّقة، وبما يصرف الأنظار عن افتضاح السلوك وتردّى صورة دولة الاحتلال لدى العالم كله.
خطيئة الحماسيِّين أنهم أثاروا الغبار دون حماية عيونهم أو امتلاك نظّارات للرؤية الليلية. منحوه الذريعة، ثم بثِقَل وطأة العملية أُرخِى له ستار البطش والتقتيل شهورًا قبل أن يستفيق العالم، أو يقع ضميره على موجة واضحةٍ تستنكر وتأخذ موقفًا جادًّا.
نحتاج إلى تأطير الرؤية، وضبط الخطاب، ومُساءلة المُنفلتين إن كانوا من الإعلام الرسمى أو الشعبى. إسرائيل تفرض رقابة صارمة تحت دعوى الحرب، والمجال من حولنا يفرض علينا شيئًا من الصرامة العسكرية، والفِطنة فى القول والفعل والمُداراة.
التوتّر فى أعلى مراحله، ولا عاقل يجرؤ على نفى احتمالات الصدام، لكن التعقُّل كلّه فى أن نظل الأهدأ لآخر لحظة، والأكثر تيقُّظًا واستعدادا طوال الوقت، والأخيرة يُنجزها أهلها المُختصون، وما على العوام إلا الدعم والمؤازرة، وألا يُنصّبوا أنفسهم جنرالات للمقاهى وحوائط الفيس بوك.
سيكون مُقاتلو الشاشات أكثر فائدة لو تفرّغوا لفضح جرائم الاحتلال، وإبراز الموقف الرسمى بأدائه الجاد الرصين، والمُتدرّج صعودًا فى رسائله، بمنطق وحساب. أن يذهب المؤثرون إلى مُخاطبة الشارع العبرى بدلاً من إخفاته، لكى لا يتجنّد أكثر وراء نتنياهو ونزواته، وحتى تتفسّخ رواية اليمين فى فُسحة من النقد والنقض، لا فى صخب التهديد وإثارة القلق الوجودى.
وأوضح مثال فى كلمة الرئيس السيسى أمام قمة الدوحة قبل أسبوع، وقد توجّه للشارع العبرى مُحذّرًا من مغبّة سياسات حكومته، ومن أنها تُهدّد فرص السلام الجديدة والاتفاقيات القائمة، ودعاهم لئلا يتركوا جهود الأسلاف تضيع سُدى.
والشىء بالشىء يُذكر، فإننا نحتاج إلى تحسين المنظومة التشريعية فيما يخص التعامل مع تجاوزات منصّات التواصل الاجتماعى، لا بالرقابة وحصار الآراء والمُعارضين أو أى افتراض سيئ يطرأ فورًا على ذهن القارئ، بل بإعادة الاعتبار للمعلومة والجدية والمسؤولية، ولأن يلتزم الفرد فى نُسخته الافتراضية، بما ينصاع له فى الشارع والعمل وبين الأهل والجيران.
فوضى المنصّات تحتاج للضبط، وبعض تُجّار المشاهدات يستحقّون المُساءلة، أو الحَجر عليهم، والخطر ليس فى فتيات «تيك توك» وحدهن، بل ربما يكون أكبر وأعظم مع جنرالات الريتش وصقور الشعبوية البائسة.أد