فى الثانى من سبتمبر عام 2018، استيقظ العالم على واحدة من أبشع الكوارث الثقافية فى التاريخ الحديث، عندما اندلع حريق هائل فى المتحف الوطنى بمدينة ريو دى جانيرو، وخلال ساعات قليلة فقط، تحولت أعرق مؤسسة علمية وثقافية فى أمريكا اللاتينية إلى أطلال سوداء، بعد أن التهمت النيران ما يقرب من 90% من مقتنياته التى تجاوزت العشرين مليون قطعة.
لم يكن المتحف مجرد مبنى أثرى عمره أكثر من قرنين، بل كان بيتًا لذاكرة البرازيل والعالم، إذ احتوى على قطع لا تُقدّر بثمن: حفريات نادرة، وهياكل ديناصورات، ومومياوات مصرية قديمة، وأقدم جمجمة بشرية فى الأمريكيتين تُعرف باسم "لوزيا"، بالإضافة إلى أرشيف ضخم يوثق ثقافات الشعوب الأصلية.
الحريق الذى اندلع فى ليلة صيفية، استمر ساعات طويلة، وكشف حجم الإهمال الذى عانى منه المبنى على مدى سنوات: أنظمة إنذار معطلة، معدات إطفاء قديمة، ونقص مزمن فى التمويل، وهكذا انهار صرح علمى وتاريخى فى مشهد أشبه بصفحة سوداء فى سجل التراث العالمى.
ماذا بقى بعد الرماد؟
رغم الخسائر المروعة، نجت بعض القطع بشكل يكاد يكون إعجازيًا، أبرزها نيزك "بنديغو"، أكبر نيزك عُثر عليه فى البرازيل، الذى بقى صامدًا وسط الركام، كما تمكن خبراء الترميم من استعادة أجزاء من جمجمة "لوزيا"، لتصبح رمزًا للمقاومة فى وجه الفناء.
ولم تتوقف الجهود منذ تلك اللحظة على انتشال ما يمكن إنقاذه من تحت الأنقاض، فرق علمية محلية ودولية عملت لسنوات على تنظيف القطع، ترميمها، وتصنيف ما نجا، فى محاولة لاستعادة ما أمكن من ذاكرة ضائعة.
مسيرة الإحياء.. من الخراب إلى النهوض
بدأ مشروع ضخم لإعادة بناء المتحف من جديد، جرى ترميم الواجهة الكلاسيكية للمبنى، وإعادة نصب التماثيل الحجرية التى كانت تزينه، ومع مرور الوقت، تحولت الكارثة إلى حافز لحشد الدعم المحلى والدولى من حكومات، جامعات، ومتاحف حول العالم، التى تبرعت بمقتنيات جديدة وأموال وخبرات لترميم ما تهدّم.
وبعد سبع سنوات من الحريق، شهد المتحف إعادة افتتاح جزئى لعدد من قاعاته أمام الزوار، من بين أبرز ما يمكن رؤيته اليوم: نيزك بنديجو فى قاعة الاستقبال، وهيكل ضخم لحوت مهيب فى جناح خاص، إضافة إلى مقتنيات جديدة وصلت من تبرعات دولية، منها أحافير نادرة وأدوات ثقافية أعيدت للبرازيل بعد قرون من الغياب.
لكن الحقيقة أن المتحف لم يعد بكامل طاقته بعد، فما زالت أعمال الترميم والتجديد مستمرة، ومن المتوقع أن يكتمل المشروع خلال السنوات القليلة المقبلة، بحيث يستعيد المتحف دوره كأحد أعمدة الثقافة والبحث العلمى فى البرازيل وأمريكا اللاتينية.