حازم الجندى

المعاملة بالمثل.. سلاح القاهرة في مواجهة ازدواجية بريطانيا

الثلاثاء، 02 سبتمبر 2025 05:00 م


لم يكن ما جرى أمام السفارة المصرية في لندن حدثا عابرا يمكن تجاوزه باعتباره مجرد مشهد احتجاجي جديد من جانب جماعة الإخوان الإرهابية وأنصارها في الخارج، بل إن الموقف الأخير الذي انتهى باحتجاز الشاب المصري أحمد عبدالقادر، الشهير بـ"ميدو"، قبل أن يُفرج عنه لاحقا، يمثل نقطة تحول في أسلوب تعامل القاهرة مع ملف حماية بعثاتها الدبلوماسية. فمصر هذه المرة لم تكتفِ ببيان استنكار أو طلب توضيحات، وإنما لجأت إلى أداة دبلوماسية تقليدية لكنها شديدة الفاعلية، وهي مبدأ المعاملة بالمثل، لتبعث برسالة قوية مفادها أن احترام قواعد القانون الدولي ليس خيارا انتقائيا وإنما التزام متبادل.

بدأت الأزمة حين حاولت مجموعة من أنصار الإخوان الإرهابية محاصرة مبنى السفارة المصرية في العاصمة البريطانية بالسلاسل، في خطوة استفزازية تنطوي على تهديد مباشر لحرمة البعثة الدبلوماسية، الأمر الذي دفع المواطن المصري أحمد عبدالقادر للتدخل لمنع هذا التحرك، لكن الشرطة البريطانية بدلا من أن تواجه المعتدين قامت باعتقاله لفترة قصيرة قبل أن تفرج عنه، الأمر الذي يصعب تفسيره إلا بأنه ازدواجية واضحة في تطبيق القوانين، إذ جرى التعامل مع شخص يحاول الدفاع عن السفارة باعتباره متهما، بينما لم يتعرض المعتدون لأي إجراءات حاسمة.

في مواجهة ذلك، تحركت وزارة الخارجية المصرية بسرعة وحزم، حيث طالب الوزير بدر عبد العاطي بتوضيحات عاجلة من مستشار الأمن القومي البريطاني حول ملابسات الواقعة، فيما تولى السفير المصري في لندن متابعة الملف عن قرب وتقديم كل أشكال الدعم للناشط المعتقل حتى إطلاق سراحه، وقد عكس هذا التدخل الرسمي إدراكا بأن حماية البعثات الدبلوماسية ليست قضية ثانوية وإنما مسألة تتعلق بجوهر السيادة الوطنية وكرامة الدولة.

غير أن الرد المصري لم يتوقف عند حدود الاحتجاجات الدبلوماسية، بل تجسد في خطوة عملية حين أقدمت السلطات على إزالة الحواجز الخرسانية التي كانت تحيط بالسفارة البريطانية في القاهرة، ورغم أن هذه الخطوة تبدو رمزية في ظاهرها، فإنها تحمل دلالات عميقة جداً فهى أولا رسالة مباشرة إلى لندن بأن ما يُمنح لسفارتكم من امتيازات أمنية استثنائية ليس التزاما مطلقا وإنما مرتبط بمدى التزامكم بحماية سفاراتنا على أراضيكم. وهى ثانيا تأكيد على أن مصر لن تقبل أن تُعامل بعثاتها وكأنها هدف سهل بينما توفر الحماية الكاملة للبعثات الأجنبية لديها. وهى ثالثا تجسيد عملي لمبدأ المعاملة بالمثل الذي يمثل أداة راسخة في العلاقات الدولية تضغط بها الدول دون اللجوء إلى تصعيد حاد أو قطع العلاقات.

الخطوة المصرية لم تأتِ خارج السياق القانوني، بل انطلقت من روح اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961 التي تنص بوضوح على أن الدولة المضيفة ملزمة بحماية مباني البعثة الدبلوماسية من أي اقتحام أو ضرر ومنع أي إخلال بأمنها أو انتقاص من كرامتها، وبما أن بريطانيا تقاعست عن الوفاء بالتزاماتها في هذا الصدد، فقد ردت القاهرة بالمثل لتقول إن الالتزامات ليست من جانب واحد.

سياسيا، ما قامت به مصر يعكس تحولا مهما في فلسفة إدارتها للسياسة الخارجية، فهى باتت أكثر ميلا إلى الرد العملي بدلا من الاكتفاء بالبيانات. هذا التحول يعزز صورتها كدولة حريصة على هيبتها وقادرة على الدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية. وفي الوقت نفسه فإن الخطوة المصرية حملت بعدا رمزيا محسوبا، فهى لم تصل إلى حد الإجراءات العقابية الكبرى مثل تقليص مستوى التمثيل الدبلوماسي أو طرد دبلوماسيين، لكنها كانت كافية لإرسال رسالة مفادها أن الاستهانة بالسفارات المصرية لن تمر مرور الكرام.

وقد جاء رد الفعل البريطاني ليؤكد أن الرسالة وصلت، حيث اضطرت لندن إلى إغلاق مبنى سفارتها الرئيسي في القاهرة مؤقتا بعد إزالة الحواجز الخرسانية، في إشارة إلى أنها أخذت الموقف المصري على محمل الجد، وعلى المدى القريب، قد يدفع هذا التوتر المحدود إلى إعادة فتح نقاش ثنائي بين القاهرة ولندن حول آليات حماية البعثات الدبلوماسية والتنسيق الأمني لمنع تكرار مثل هذه الحوادث.

في المحصلة، لم تكن أزمة السفارة المصرية في لندن مجرد مشاجرة عابرة ولكنها شكلت اختبارا لمكانة مصر الدبلوماسية وقدرتها على الدفاع عن سيادتها. ومن خلال تطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، بعثت القاهرة برسالة مزدوجة، الأولى إلى بريطانيا لتقول إن أمن السفارات التزام متبادل لا مجال للتهاون فيه، والثانية إلى الداخل المصري لتؤكد أنها دولة قادرة على حماية مصالحها ومواطنيها أينما كانوا.

وأخيرا ..  لقد أثبتت التجربة أن أدوات القانون الدولي لا تزال فعالة حين تستخدم بحزم، وأن المعاملة بالمثل تظل واحدة من أنجع الآليات لضمان التوازن في العلاقات بين الدول.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب



الرجوع الى أعلى الصفحة