أكرم القصاص

بصمات سليمان شفيق.. المثقف المناضل اليسارى العابر للأفكار والأحزاب

الجمعة، 19 سبتمبر 2025 10:00 ص


سليمان شفيق، هو بالفعل عامل مشترك وصديق عريق لأجيال من المثقفين والسياسيين والباحثين على مدى الأزمنة، يختم رحلته على الأرض لكنه يبقى فى القلوب والعقول لما يتركه من أثر فى كل من عرفه.

سليمان شفيق هو خلطة مصر التى تطمئنك أنها دائما بخير، قادرة على نسج الأفكار والعلاقات وترميم الجراح والسير باتجاه القلب، سليمان من كثيرين لا يمكن أن تشعر أنه رحل، ولا أصدق أنه يغيب، فهو من أصحاب الخطوة، وأثره يظهر فى كل مكان وركن مر به، أفكاره وتلاميذه ومواقفه فى كل مكان، وخلال ساعات بعد إعلان رحيله تفجرت ينابيع القصص والحكايات والتفاصيل من كل اتجاه، كل من عرف سليمان شفيق لديه معه موقف وقصة وفكرة ولحظات لا تنسى، الكل يعزى فى سليمان ويتلقى العزاء، اليمين واليسار والوسط، من اتفق أو اختلف مع سليمان لم يختلف حوله، فهو عامل مشترك بين الجميع وصاحب القلب الكبير والعقل العميق البسيط الشعبى، لم يتخل أبدا عن أفكاره ومبادئه، وترك علامة وفكرة لدى كل من عرفه أو التقى به.

على مدى أكثر من ثلاثين عاما لم تتوقف الحوارات والمناقشات بيننا أنا وسليمان شفيق، كان طوال الوقت قادرا على إثارة الدهشة وطرح الأسئلة العميقة ببساطة، خاصة فى اللحظات الحرجة والملتبسة، خلال أحداث 25 يناير، كنا نتحدث يوميا، نلتقى أو نتحدث فى التليفون، حول الحاضر والمستقبل، كنا نتفق فى تحليلات وأستنير لأفكاره، ونتبادل النقاش، كنا نتفق فى استعمال الأفكار ونسبتها لأصحابها الكتب والمقالات والتحليلات والأفلام والمقولات، نتبادل قراءة الكتب القديمة ونتبادل حولها الأفكار، سليمان دائما لديه الجديد والقدرة على تنظيم أفكاره، وبالرغم من أنه تأسس على أفكار الماركسية، لم يكن دوجماطيقيا جامدا، لكنه استوعب التحولات والتفاعلات التى غيرت من شكل أفكار اليسار، ونجح طوال الوقت فى استيعاب التغيرات وتحديث أفكاره من دون أن يغير مبادئه، فقد تمسك مثلا برفض التطبيع مع الصهاينة، ورغم أنه من مؤسسى مركز ابن خلدون مع الدكتور سعد الدين إبراهيم، ويرتبط بعلاقات قوية معه، لكنه رفض دائما أن يقترب من أى شبهة تطبيع، وهو ما يذكره الدكتور سعد الدين إبراهيم الذى يروى ذلك فى مذكراته التى كتبها الزميل الكاتب الصحفى سيد الحرانى، وهى مذكرات ثرية ومهمة وبها الكثير من الأسرار والوقائع حول مسيرة سعد الدين إبراهيم.

ومنذ عرفته لم نتوقف عن الحوارات، واستمر يكتب معنا فى «اليوم السابع» منذ عام 2012 حتى 2019، وهو أحد الداعمين لتجربة «اليوم السابع» بالأفكار والمشاركة، وكانت له اقتراحات حول مراكز أبحاث وتحليلات ومقالات، ودائما ما كنت أتصل به لأبدى إعجابى بمقالاته، أو يفعل هو نفس الشىء، أو نختلف أو نتفق ونتفاعل مع أحداث أو أفعال وردود أفعال، وهو ما جعلنا أصدقاء ورفقاء فكر، كان مثقفا كبيرا لم يتوقف عن القراءة والكتابة والتفكير حتى الآن.

فى روايته «ثلاثة وجوه وستة عيون مختلفة لرؤية العالم»، التى صدرت عن قصور الثقافة عام 2019، يقدم سليمان شفيق إحدى أكثر التجارب عذوبة وعمقا، ومن خلال السرد الروائى يقدم قصة يوسف المصرى القبطى الذى يحمل أسرار العمل السياسى والاجتماعى والفكرى، يختفى «سليمان شفيق» فى روايته خلف ثلاث شخصيات، تجتمع فى يوسف الكاتب والفنان القبطى الذى ورث السياسة من والده القيادى العمالى والمناضل الشيوعى القديم، والنزيل بالسجن فى الستينيات، ويرصد يوسف هزيمة يونيو وفترة سنوات الضباب والحرب فى أكتوبر 1973، والانفتاح الاقتصادى وأحداث يناير 1977، ويرصد سليمان شفيق من خلال «يوسف» ما يشبه يومياته عبورا فى عالم السياسة والسجن، ومبادرة السلام وسفر يوسف إلى بيروت وانضمامه للمقاومة لنجد أننا أمام «رفعت المصرى» المسلم الشيعى السورى الجنسية والفلسطينى الهوية وهو الاسم «الحركى» الذى كان يحمله «يوسف» فى تنقلاته المُكلّف بها، وانضمامه للقتال فى صفوف المقاومة الفلسطينية، حتى الخروج من بيروت عام 1982، ورفعت هو اسم سليمان فى التنظيم، والوجه الثالث هو «ألبرتو كلفنيانو» البرتغالى الجنسية، المتهم  بالإرهاب وخطف الطائرات، ويكتب  «سليمان شفيق» على لسان يوسف «وأنا يوسف ورفعت وألبرتو! ثلاث شخصيات فى جلد واحد، وقلب واحد بثلاثة رؤوس كتنين سفر الرؤيا».

يدخل سليمان إلى المناطق الشائكة والمحظورة داخل التنظيمات الحزبية، فاللجنة المركزية للحزب، تفتقد للديمقراطية، والرواية أقرب لمذكرات جيل كامل مر من الخمسينيات حتى الآن بكل التحولات والتجارب.

وما زلت أتذكر مقالا كتبه سليمان شفيق فى الأهالى التى يعتز بأنه من مؤسسيها وكتابها وأساتذتها مع الأساتذة الكبار، كتب عن الأستاذ فيليب جلاب، رئيس تحرير الأهالى، عند رحيله، متخيلا أن فيليب جلاب الأستاذ يطلب من سليمان أن يتخلى عن حزنه على « فيليب»، ويقدم رؤيته للجنازة والموت والحزب والشارع، كان مقالا مؤثرا وكاشفا عن مواهب سليمان وجيل من الصحفيين الكبار فى تجربة الأهالى، التى تمثل إحدى أهم التجارب الصحفية فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، حيث تسلم جيل سليمان الراية من الكبار حسين عبدالرازق وصلاح عيسى، أمينة النقاش، فيليب جلاب ومحمود المراغى، لطفى واكد وأبو العينين حجازى وبهجت عثمان، ومحيى الدين اللباد ونبيل زكى، فى ظل زعامة خالد محيى الدين، ورئاسة رفعت السعيد، وعالم الثمانينيات الثرى بالسياسة والأفكار والأحلام.

لكل هذا فإن سليمان شفيق، يبقى مع كبار كتاب ومثقفى مصر وقوتها وإشعاعها الذى لا ينضب ولا يختفى تاركا بصمة فى كل ركن.


 

 




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب