لحظة بالغة الخطورة، تتطلَّب موقفًا بليغًا، والبلاغة بحسب التعريف هى مُوافقة الخطاب لمقتضى الحال، بإيجازٍ من غير عجز وإطناب من دون خَطَل. ما يُوجِبُ على القمَّة العربية الإسلامية الطارئة فى الدوحة أن تكون على قدر الحدث طبعًا، مع مُراعاة ألَّا تنزلق فيما يُفرِّغ الكلام من معناه، بالإفراط أو التفريط.
إنها الموازنة الدقيقة فى سياقٍ مُختلٍّ مُلتهب، بمشاعر مُتأجِّجة، وكفّةٍ مائلة بقوَّة لجهة الدولة المارقة بنُزوعها الإرهابى العميم، من أقلِّ فردٍ فيها يُهلِّل للإبادة الجماعية أو يُمرِّرها صامتًا، حتى أكبر رأس يتَّخذ القرارات الجنونية الصاخبة، ويتحدَّى العالم والقانون وأُطر النظام الدولى القائم على القواعد.
لستُ ميّالاً للمُقاربات العاطفية التى يقترفها كثيرون من الزملاء والمُحلِّلين طيلةَ الأيام الماضية، لا عن ارتيابٍ فى صدقيَّة المواقف، أو تقليلٍ من إمكانات دول الجامعة العربية ومُنظّمة التعاون الإسلامي، إنما لأنَّ المشهد ضاغطٌ بثِقَله على أعصاب الجميع، والمسارات ضيِّقةٌ أو تكاد أن تكون مُغلقة.
وإذا كانت الأُمَم المتحدة بكلِّ مرافقها وفعاليَّاتها عاجزةً عن كَبح النازية الصهيونيّة المُنفلِتَة، فربما يكون التمادى فى التوقُّعات بشأن قمَّة اليوم ينطوى على مُبالغةٍ شعبوية، ويُحَمِّلُ المُجتمعين ما لا قِبَل لهم به، أو يُفخِّخُ الإجراءات المُرتَقَبة استباقيًّا، برَفع السقف إلى ذُرىً قد لا يصلون إليها، وإن استجابوا فيها للشعبوية، فلن يتجاوزوا نطاق القول إلى الفعل.. والقليل الجاد والمضمون هُنا، أفضل وأمضى من الكثير المستحيل.
وما من شَكٍّ فى أنها ساعةُ امتحان، ووقفةٌ مصيريَّة سيكون لها ما بعدها، وسيترتَّب عليها كثير من تفاصيل السياسة والأمن، ومستقبل المنطقة عمومًا، والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، غير أنه من غير المُفيد أن نبنى آمالاً عريضة على دائرةٍ شديدة الاتساع والتنوُّع، وبين دُوَلِها اختلافاتٌ ثقافية واجتماعية وتاريخيّة لا حصرَ لها، ولا يَجُبّها الدينُ أو يُداريها، ومن المُتوقَّع أن تكون لها أهدافٌ واختيارات تتَّصل بمصالحها الحيوية.
صحيحٌ أنها لا تتعارَضُ بالضرورة مع إدانتها للهجوم الأخير على قطر، لكنها قد لا تأخذها بعيدًا من الإدانة، وإثبات الموقف التضامنى فى حدِّه الأدنى، ومن زاوية أخلاقية وضميريّة مُجرَّدَة.
قبل ثلاثة أيام من موعد الانعقاد، وُضِعَتْ مُخرجاتُ مؤتمر حل الدولتين على الطاولة الأُمَميّة. عَبَر «إعلان نيويورك» بأغلبيّةٍ كاسحة، لكنه قُوبِل بالرفض من عشر دول، وامتنعت اثنتا عشرة دولة عن التصويت، كانت منها ألبانيا والكاميرون، العضوتان فى الأُسرة الإسلامية المُجتمعة اليوم.
وبالنظر إلى حيادهما إزاء الحقوق الفلسطينية، الثابتة بالتاريخ والقوانين والأدبيَّات الدولية، والتجاوز السهل عن المَظلَمَة المُمتدَّة منذ ثمانية عقودٍ، وصولاً إلى مأساة غزة الدائرة حاليًا، فالأوقع أنهما لن تكونا طرفًا فى خصومةٍ مُتفرِّعةٍ عن الأصل، ولا سلاحًا رَديفًا فى معركةٍ جيوسياسية لا تخصُّهما على الإطلاق.
وإلى ذلك، فإنَّ عددًا من الدول العربية لديها مصالح وارتباطات مع إسرائيل بمُوجَب الاتفاقات الإبراهيمية وغيرها، وثمّة طائفة أُخرى لن تضع علاقتها مع الولايات المتحدة فى مهبِّ الريح، لا سيما أن واشنطن تأخذُ المسألة على مَحمَلٍ شخصىٍّ خالص، وتتخطّى نطاق الوسيط أو حتى الداعم، إلى حيِّز الشراكة الكاملة مع نتنياهو وحكومته، بما لا تَصلحُ خطاباتها الدبلوماسية المحايدة، واجتهادها بالمناورة والاحتيال، فى سَتره أو تخفيف فجاجته الواضحة.
والقَصدُ ليس التثبيط أو الإحباط على الإطلاق، بل النظر للصورة من زاويةٍ واسعة، وترشيد الطموحات العالية، بحيث لا تكون قيدًا على أصحابها فى معركة النَّفَس الطويل. من دون أن يعنى ذلك طبعًا أننا فى رفاهية تمرير الحوادث بالطريقة المُعتادة من اللا مبالاة، أو أنَّ المجال يتَّسع للأريحية والاطمئنان، ثمَّ الاكتفاء بالشجب والإدانة على سابق الجولات الشبيهة، والانكفاء على الذات بشعورٍ عارمٍ بالرضا وقضاء النافلة.
وكلُّ الحكاية فيما أقصدُ، أن نأخُذَ الوقائعَ بحقِّها، وألَّا نتعالى على التوازُنات أو نتعامى عنها، وذلك كى لا نسقط من حالقِ التمنِّيات إلى قَعر الواقع الردىء، أو نخرج من الملتقى الجماعى بكفوفٍ فارغة، ومُزايداتٍ مُتبادَلَة لا أوَّل لها ولا آخر.
وذلك، لأن حظيرة الأُصوليّة لن تتوقَّف عن التصويب فى الاتجاه الخطأ، حتى لو كان الطوفان صنيعة حماس، أو كانت الدوحة أحدث ضحاياه، فالمُمانِعون والإخوان الذين استُثمر فيهم من جهة المخطئين جميعًا، يلعبون فى فريق نتنياهو حتى الساعة. وأضعف الإيمان أن يردعهم المُموّلون بعدما تطاير الشَّرر إليهم، أو يضعوا الأمور فى نصابها الصحيح، وأوّلها القمّة نفسها.
غالبُ الظنِّ أنَّ الإدارة القطرية أرادت حشدَ أوسع دعمٍ معنوىٍّ مُمكن، فكان قرارها بالدعوة إلى القمَّة المشتركة لمُنظَّمة إقليمية مَعنيَّةٍ مُباشرةً بالحَدَث الجَلَل، وأخرى ذات طابعٍ رُوحىٍّ تغيب عنه المصالح المشتركة، وتتقطَّع بين أعضائها سُبل الجغرافيا وأولويات السياسة والأمن القومى.
وفى تلك التركيبة، يصعُب التوصُّل إلى آليَّةٍ جماعيّة للردِّ أو التصعيد، كما يصعُب الاتفاق على مسارٍ مُتدرِّجٍ للمُواجهة مع حكومة اليمين المُتطرِّف فى تل أبيب، أو الضغط لتطويق الانفلات الأمريكى، فيما تملك واشنطن مفاتيحَ عِدّةً لخَنق الأصدقاء من مُنظَّمة التعاون فى بيئاتهم الآسيوية والأفريقية الهشّة، وبوسائل لن تتكلَّف فيها أعباء باهظةً للردع والتقويم، وإعادة ضبط الأفكار والتوجُّهات.
كان الأَوقَعُ عَمليًّا أن تنحصر الدعوة فى الحزام العربىِّ، وأن تدور المُقاربة فى إطار ميثاق الجامعة التأسيسى وما دخل عليه من تطويرٍ وإضافاتٍ، أو خبرات مُكتسبة بالتجربة والخطأ وطول البُكاء على ذات الأطلال.
وهُنا يُمكن البحث فى مسألة الأمن الجماعى، باعتبار الأعضاء جديلةً وحدة تتشابك جغرافيًّا وديموغرافيًّا، ويتضرَّر الواحدُ منهم بما يحيق بالآخر، وترتدُّ الآثار وتتضاعَفُ على الساحة كلِّها، إذا ما اهتزَّ أحدُ أركانها أو أصابته وعكةٌ طارئة.
كما يصحًّ أيضًا الحديث عن مُعاهدة الدفاع المشترك، والدفع باتجاه تفعيلها بعد ما يزيد على سبعة عقود من التوقيع والتعطيل، وقد كان الرئيس السيسى سبَّاقًا لهذا، بالدعوة منذ العام 2015 إلى تشكيل قوّةٍ عربية مُشتركة، صارت الحاجةُ إليها اليومَ أضعاف ما كانت فى الأمس، وفى أيّة مرحلة عاشتها المنطقة منذ الاستقلال ظاهرًا، واختبار صيغةٍ أكثر دهاء من الاستعمار والمُؤامرات الظاهرة والخفيّة، فى متاهةٍ دائرية لا تنتهى إلا لتتجدَّد.
وبعيدًا من المثاليات، واختلاف تصوُّراتنا بشأن المُناسب والأنسب، فقد وقع الاختيارُ فى النهاية على أن يتَّخذَ الردُّ صيغةً عُمومية يُخالطها الدين، على ما فى ذلك من إضعافٍ لأثرها المُرتَقَب من زاويتين: التنازُع المُحتَمَل واختلاف الرُّؤى كما أسلفت، ثمَّ الأخطر، ما يخصُّ مُجاراة الصهاينة فى سرديَّتهم الساعية لتديين الصراع، ومَنحِه صبغةً حضارية يتصادَمُ فيها الحلفُ اليهودى المسيحانىُّ بنكهته القومية البيضاء، مع الطيف الإسلاموىِّ العريض، باعتباره خصمًا عتيدًا للغرب وقُواه اليمينيَّة الصاعدة، ما يُهدِّدُ بحصيلةٍ هُنا أقلّ من المُراد أو الموافق لطبيعة الظرف، وبَهبّةٍ صهيو-مسيحية من هُناك، تتجنَّدُ بقَضِّها وقضيضها فى معركة نهاية التاريخ وصدام الحضارات، المُستمَدَّة من أفكار فوكوياما وصامويل هنتنجتون.
وأقسى ما تُواجهه القمَّة التى تنعقد اليوم، تلك الآمال العالية لدى الناظرين من ثُقب الأيديولوجيا، أو المُحمَّلين بأعباء النكبة الغزِّية طوال ثلاثة وعشرين شهرًا منذ بدء العدوان على القطاع.
الأغلبيَّةُ يترقَّبون حصيلة المُداولات الجارية بين وزراء الخارجية، وما ستتضمنه كلماتُ القادة، ثم ما سيصفو منها وينتقلُ إلى البيان الختامىِّ.
فريقُ المُتشائمين يستبِق الحدثَ بالجزم بأنَّ سخونته لن تتجاوز الحناجر، والمُتفائلون يُفرِطون فى اقتراح الأفكار والخيارات، وهو طَرحٌ أقرب إلى التمنِّى من الإمكانية وقابلية الإنفاذ، وحساب الخُطَى بوَعىٍ وبصيرة، كى لا ترتدَّ الرهاناتُ الطيِّبة وبالاً على أصحابها، أو على غيرهم، خاصة أهل فلسطين الذين سدَّدوا فواتير المُغامرين من الخارج قبل الداخل.
كان «الطوفان» غالبًا مُجرَّد محاولة لاستحثاث الدراما وتحريك التوازُنات، عبر الغزو الخاطف واقتناص عدد زهيدٍ من الرهائن للتفاوض عليهم.
انكشف العدوُّ على غير تَوَقُّعٍ، وكبُرت العملية فى عيون المُنفِّذين، ولم يجدوا كابحًا لهم من القادة وواضعى الخطط، المأخوذين بدورهم باندفاعة العاطفة وأوهام القوّة المُفرطة.
تحوَّل الخطابُ سريعًا من المقاومة إلى التحرير الكامل، ومن المُبادلات الجزئيَّة إلى المُطالبة بتبييض السجون دفعة واحدة، ثم آل فى النهاية إلى الحُلم بطَيف السادس من أكتوبر، والفصال فى خرائط الانسحاب داخل القطاع لا خارجه.
كانت الصفعةُ ثقيلةً، وزادها الاستعراضُ الدعائىُّ ثِقَلاً وإيلامًا، وما كان مُنتَظَرًا من النازىِّ الماكر بنيامين نتنياهو إلَّا أن يقبض على الفرصة، ويستحلب الذريعة إلى آخرها، مُراهنًا على معرفته بالعقلية الحماسية، وأنها لن تتلافى محاولات الاستدراج، ولن تُقَصِّر فى تجديد الذرائع، وإمداده بمُسوّغات البطش وإدامة العدوان، ولو أمام تيَّاره ورُعاته الأمريكيين فحسب.
الفخُّ الذى حفره يحيى السنوار، تدحرج إليه بخفَّةٍ أو انفعال. وتحوّلت لحظةُ القوة صباح السابع من أكتوبر إلى نكبةٍ كاملة لعامين تاليين حتى اليوم، والعدَّاد دوّار.
وحلقةُ النار المُتوسِّعةُ الآن يقودها نتنياهو، لكنها من تلك الشرارة الأُولى. قد لا يفيد إطفاء لحظة الطوفان بالاعتذار عنها، أو خروج الفاعلين منها خارج المشهد قبل التوافق على ترتيبات اليوم التالى.
هذا مِمَّا يكثُر فيه الجدل ويفيض، إنما تتوجَّبُ الاستضاءة بالتجربة فى كلِّ الأحوال، وعدم استمراء المُقامرة ذاتها، مع انعدام وسائل الخوض فيها لمُنتهاها، وانغلاق السُّبل وغياب الخرائط الضامنة للرجوع عنها حالما تقضى الظروف.
والدوحةُ اليومَ لديها مَظلَمَةٌ واضحة، وحقٌّ لا يقبل التشكيك، والأولوية لاستثماره على الوجه الأمثل، وبما يستعيد كبرياءها المُهدرَةَ وهالتَها المعنوية المُهتزّة أوّلاً، ويردعُ الصهاينةَ عن تكرار التجربة معها أو مع غيرها، ثمَّ يشقُّ مسارًا لتطويق انفلات الاحتلال فى بقيَّة الساحات المفتوحة، واختبار كلِّ الإجراءات المُعزِّزة لتغليب السياسة على القوَّة، سعيًا لإجبارهم على البدء فى إنهاء حروبهم المُتأجِّجة بامتداد الإقليم، ثم الجلوس إلى طاولة الحوار والتسوية السلمية.
لن تُعلِنَ القمَّةُ العربية الإسلامية الحربَ على إسرائيل/ أمريكا فى واقع الأمر، وليست كلُّ صِيَغ الشَّجب سواء بالمناسبة، المهمُّ أن تكون مشفوعةً برؤية سياسية قانونية وتصوُّرٍ إجرائىٍّ مُتماسك، وآليَّاتٍ عملية لتحريك المسألة فى قنوات النظام الدولى الطبيعية.
أمَّا الاقتراحاتُ الساخنةُ فكثيرةٌ ومُتنوِّعة، وفيها ما يُحقِّق الفائدةَ المطلوبة وقتيًّا من دون تداعيات مادية حاضرة، كأنْ يتَّفق الحضور على تحجيم العلاقة المُباشرة مع تل أبيب، ووَضع مُخطَّطٍ زمنىٍّ للنظر فيها بحسب التطوُّرات، وصولاً إلى القطيعة الكاملة.
كما يُمكن التلويح بالتحرُّك نحو حصار الدولة العبرية، إن لم تتوقَّف عن مُحاصرة غزة، وذلك بدءًا من إنهاء التنسيق بشأن المسارات البريّة وشبكة الممرّات العابرة للدول والحدود، القائمة والمُتَّفَق عليها مُستقبلاً، وصولاً إلى إغلاق المجال الجوى لدُوَل المنطقة على الطائرات الحربية والتجارية الطالعة من إسرائيل أو الذاهبة إليها.
ويُمكن للأغلبية غير المُرتبطة بالتزاماتٍ قانونية ذات طابعٍ دولىٍّ معها، أن تُهدِّد بسَحب اعترافها بالدولة فى مدىً زمنىٍّ مُحدَّد، وأن يُجدِّد غيرُ المُعترفين مواقفَهم، بالتشديد عليها والدفع باتجاه تسويقها وتزخيمها، لتكون حملةً دوليَّةً ترُدُّ على تجاوز القانون بالقانون، وتعودُ لقرار التقسيم الذى يُعَلِّقُ شرعيَّة الكيان المُلفَّق فى أرض فلسطين التاريخية، على إقامة دولة فلسطينية مُوازيةٍ وكاملة التجسُّد والأهليّة.
لا خلافَ على الحاجة إلى إجراءٍ جادٍّ ومُتقدِّم، يتجاوز الأدبيَّات الكلاسيكية من الإدانة وتأكيد الحقوق التاريخية، مع أهميتها غير المُنكرة. الانتهاء إلى بيانٍ ختامىٍّ على درجة الحرارة نفسها فى القِمَم السابقة، لن ينطوى إلَّا على رسالةٍ بثبات ردِّ الفعل، مهما تمادَى الفِعلُ وتبجَّح وقَفَزَ على كلِّ الخطوط الحُمر.
وإذ مضى نتنياهو من غزة إلى لبنان وسوريا، ثم اليمن وإيران، وأخيرًا الوسيط القطرى الذى لم يكُن طرفًا فى المواجهة الخشنة على أىِّ مستوى، فالحاجة على أشُدِّها اليومَ لإشعاره بأنَّ قياسَه مع الفارق قطعًا، وأنَّ جرائمَه السابقة إن كانت تستّرت بالالتباس الجارى مع محور المُمانَعة، فالانكشاف الصريح فى ضربة الدوحة لا يُمكن تمريرُه تحت أية مزاعم أو دعايات، لا سيما أنَّ قادة حماس كانوا هناك بوساطةٍ أمريكية، على خلفية طَلَبٍ إسرائيلىٍّ مباشر.
كما أنَّ نتنياهو نفسه لطالما استثمر فى الحركة وعمل على دعمها، وله فى ذلك رسائلُ صريحةٌ يعتبرها فيها ذُخرًا استراتيجيًّا لإسرائيل، ويُشجِّع كلَّ مَنْ لا يُريد دولةً فلسطينية على أن يدعم حُكَّام زمن الانقسام فى غزة.
وهذا إن كان لا يُبرِّرُ وحشيَّته فى القطاع مرَّة أو عشرًا، فإنه يحتجُّ عليه ألفَ مَرَّة عندما يُحاول تصدير أزمته للآخرين، أو خَلط الأوراق لإبقاء الميدان مُشتعلاً، وصَرف الأنظار عن الإبادة الجماعية وجرائم الحرب الماثلة للعيان.
ليس مطلوبًا من القمَّة أن تَفُكَّ العُقدة المستحكمة، ولا أن تنهى عدوانًا يُوشِك أن يُغلق عامَه الثانى، ويتأبَّى على الأمم المُتَّحدة وعواصمها الكبرى. المُهمُّ أن يكون الخطابُ بَليغًا، من دون حواشٍ واستطرادات، وبصياغاتٍ واضحةٍ مُكثَّفة ولا تقبل التأويل، وأن يكون المُلتَقَى الموسَّع لإثبات الموقف الجماعى، على أن يُعهَد لجناحى الاجتماع بمهامّ عمليَّةٍ مُؤطَّرةٍ تأطيرًا دقيقا، ومُتدرِّجةٍ مَرحليًّا، وقابلةٍ للإنفاذ أيضًا.
وذلك، بحيث يُحال ملف الأمن الجماعى والدفاع المشترك إلى الجامعة العربية، وتُناط بدُوَل مُنظَّمة التعاون الإسلامى أدوارٌ دبلوماسية وإعلامية وقانونية، فى إطار رؤيةٍ لاختصام إسرائيل والاشتباك معها بالوسائل القانونية.
أمَّا أهمُّ ما أتصوَّرُ وُجوبَ أن تُسفر عنه القمَّة، فتشكيل لجنة للمُتابعة والتقييم، تُراقب مجريات الأحداث داخل فلسطين وفى أنحاء المنطقة، وترفع توصياتٍ دوريَّةً إلى مجلس الجامعة العربية، للنظر فى إجراءات التصعيد المتدرجة، والمُحدَّدة سَلفًا، بدءًا بقطع العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية، ثم إغلاق المنافذ والمجال الجوى، وصولاً إلى إعادة النظر فى العلاقة مع الدول الداعمة للاحتلال.
وإن تعذَّرت على البعض مُناطحة الولايات المتحدة، فثمّة قُوىً أُخرى يمكن تطويق الكيان من خلالها، بالضبط كما فعل ترامب بفَرضه تعريفةً جمركيَّة مُضاعَفةً على الهند لأنها تستورد النفط الروسى، لكنه تجنَّب الصين خشيةً من رَدِّ فِعلِها الذى لن يكون بسيطًا ولا قليلَ التكلفة على الاقتصاد الأمريكى.
وكلُّ الخلاصات التى يُمكن أن تتوصَّل إليها القمَّةُ، تنديدًا أو تصعيدًا وغير ذلك، لن تكتمل وتُؤتى أُكُلَها من دون العمل الجاد على العُقدة الحقيقية. قطرُ فرعٌ على أصل، وما قُصِفَت عاصمتُها إلَّا لوجود قيادات الوفد الحماسى المفاوض.
لا نزالُ أسرى لتصوُّر نتنياهو عن الحرب، ويتعلّق اليوم التالى بأهداب الوشائج الرمادية بينه ودونالد ترامب.
على القمّة، أو ما سيتولّد عنها، أن تشتبك بعُمقٍ مع الملف الفلسطينى، وتُنتج تصوُّرًا خاصًّا تتبنّاه وتتمسَّك به وتُروّجه عالميًّا. على أن يُعهَد بالإدارة المدنية فى القطاع للسلطة الوطنية، ضمن مواكبة عربية أو دولية، وأن يُسلِّم الحماسيون سلاحَهم للبديل المُتَّفَق عليه داخليًّا، ويَتنَحّوا عن الملف استجابة لإعلان نيويورك الداعى لحل الدولتين.
ومحور هذا التصوُّر شرعيّةُ مُنظَّمة التحرير، والفاعلية الدولية المواكبة للاعتراف بفلسطين، ثم الخطة المصرية للتعافى المبكر وإعادة الإعمار، وقد أخذت طابعًا إقليميًّا ودوليًّا بعد اعتمادها من القمة العربية الإسلامية السابقة.
وبهذا، لا يكون الرد على المساس بقطر جُزئيًّا ومعزولاً عن السياق العريض، ولا طاقته المعنوية والسياسية مُستبعَدَة من إسناد القضية الكبرى، وسيكون على نتنياهو أن يخوض حربه المقبلة مع العالم كله، ولو ظلَّت محصورةً فى القطاع، مع ما يترتب على ذلك من آثارٍ ضاغطة عليه خارجيًّا وفى بيئته، وخاصمة من أهدافه الشخصية الباحثة عن نصرٍ يُرمِّم به إخفاقَ الطوفان، ويحتمى فيه عندما يحلُّ موعد الانتخابات.
القمَّة ليست كسابقاتها فى المُقدِّمات، ويجب أن تختلف عنها فى النتائج. والأهمية هنا للرؤية الواعية الشاملة، واستدامتها، وقُدرتها على تزخيم الغضبة الإقليمية واستثمار الاستفافة العالمية.
الباحثون عن بركانٍ يتفجَّر بين المجتمعين فى الدوحة قد لا يجدون ما يتطلَّعون إليه، وحتى لو أعجبهم الكلام فقد يَبرُد وتفتُر حماستُه قبل أن يعود المتكلمون إلى بلدانهم.
الفعل هو ما يجب الرهان عليه، والحصافة أن يبدأ صغيرًا ويكبُر بالتدرُّج الصاعد، لا أن ينطلق من رئةٍ مليئة بالهواء الساخن، ثم ينكشف ويتداعى عند أقرب مواجهةٍ مع العدو وداعميه.
إنها لحظة غضب طبيعية مُستحَقّة، لكنها يجب أن تكون أيضًا لحظةَ عقلٍ واعٍ وبصيرة شوَّافة، واستثمار طويل المدى فى الإمكانات المتاحة، وفى خلخلة متاريس الصهيونية الراسخة للأسف، مع العلم بأنها معركةُ نقاطٍ لن تحسُمَها الضربةُ القاضية لأىِّ طرفٍ، وتتطلَّب طُولَ النَّفَس وصِدقَ العَزم وترصيص الصفوف، أقلّه حتى تصفو الدائرة وتتكشَّف خفايا الصدور.