أفضل تناول سردية ماهية الجيوسياسية، التي تنبري على تقويم الشعوب؛ كونها تستهدف الغور في التركيبة المجتمعية لها؛ بغية الكشف عن صورة الروابط، وقوة النسيج؛ ومن ثم تتحدد طبيعة المجتمعات بأوزان، ومقادير دقيقة للغاية، يُحسب لها حسابات خاصة في التعامل معها، ناهيك عن حصر للمشكلات، التي تواجهها بكل أنماطها، وتستكمل المسيرة بدارسة مستفيضة حول الخصائص الطبيعية للأوطان محور الاهتمام، من حيث ما تمتلكه من موارد، وما تُفْرزه من إنتاج بتنوعاته، تأتي تباعًا النظرة الشمولية لها؛ للتعرف على ثِقل، ومدى التأثير على المستويين: الإقليمي، والعالمي.
الدارس للجغرافيا المصرية، يمكنه أن يستخلص الهوية الجيوسياسية لهذا الوطن، الذي منحه الله- تعالى- موارد طبيعية عديدة، يأتي في صدارتها النيل، الذي رسم ملامح الحياة، وفرض خريطة التطور، وساعد في إحداث تنمية بصورة متدرجة، تتواكب مع طبيعة الأجيال، حتى وصلت لما نشاهده الآن من تقدم، وإعمار، ومشروعات تفوق الخيال، وتسعد الوجدان، ناهيك عن نهضة مُتفرّدة في مجالات الحياة المختلفة، والدَّارس للتاريخ يتيقن مجريات أحداثه على الضفاف، وما أوجده من طبيعة ساحرة؛ ومن ثم تشير تلك الدِلالة، وغيرها من ملامح الحضارة المصرية المتجذِّرة إلى أنه، يستحيل على بشر أن يعبث بالجيوسياسية المصرية بمستوياتها، وأبعادها المختلفة.
صفحات التاريخ، والجغرافيا المصرية، التي لم، ولن تتبدل، أو تتغيّر، قد حدّدت منذ باكورة الحياة صورة الجيوسياسية لهذا الوطن، عظيم القدر، والمقدار؛ فكان المتوسط شمالًا، بوابة للانفتاح على دول، وقارت العالم، والبوابة الشرقية رسمتها أرض تفيض بالخيرات، حافظ عليها الأجداد، وحماها الأبناء بدماء ذكيّة، وأرواح طاهرة نقية؛ فعظُم أمر سيناء في نفوس المصريين، وحفر النيل ملامح الكفاح، الذي وصُف بأنه سرُّ الخلود، وفي هذا الإطار الفريد، لا تقبل الجيوسياسية المصرية المساس بها، ما دام الوجود مستمرًا.
رغم ما عانته مصر من هيمنة مؤقتة لدول جارت على مقدراتها، وشعبها، وأرادت أن تدشّن إمبراطوريات مستدامة، إلا أنها فشلت في تغيير، أو تشويه، أو النَّيل من الجيوسياسية خاصتها، بل، تأثرت بها حتى كادت أن تنصهر في بوتقة ثقافتها الثريّة؛ ففي هذا الوطن غذاء للروح، وشفاء للنفوس، واستلهام لصورة مستقبل، تتجدد ملامحه؛ فلا يستطيع المغرض أن يحيد بالسفينة إلى منعطفات تضير بها؛ فإرادة، وعزيمة الشعوب، تعد بمثابة سياج حماية كل تغيير تتبناه قوى الشر على مرّ الزمان.
الأمة المصرية عاتية، وحكم عليها التاريخ بأنها ذات منعة؛ فقد كانت، ومازالت الدرع الواقي، والحارس الأمين؛ فعلى أعتباها انكسرت الحملات المغرضة، وعلى أرضها سطّرت البطولات المشرفة، وبيد أبنائها حُرّرت الأرض من رجس العدو، ولا نبالغ إذا ما أكدنا أن السرَّ يكمن في شعبها، صاحب الوعي الرشيد، وفي جغرافيتها، التي تحارب مع رجالها، وفي عقيدة جامعة، عضَّدها الأزهر، ودعّمتها الكنيسة؛ فصار حبُّ، وعشق الوطن، وحماية مقدراته أملاً لكل مواطن، ينعم برغد العيش فيها.
منْ يودُّ النَّيل من المنطقة، لا يجد إلا مصر أمامه، تقف حجر عثرة، تعيق مخططاته، وتعثّر جهوده، وتضعف قواه، وتقذف بأحلامه أدراج الرياح؛ لذا فهي الملاذ الآمن، والمستقر لمن يبحث عن الطمـأنينة، وحضن للاحتواء، ونجْدة للأشقاء، وزخر بسواعد شبابها للأمة بأسرها، وهنا ندرك أن الجيوسياسية المصرية ثابتة، بل، وصمام أمان للشرق الأوسط قاطبة، وأنه مهما تعالى طموح المحتل؛ فلن يجرؤ من تجاوز الخطوط الحمراء، أو تهديد الأمن القومي، الذي يدافع، ويزود عنه الشعب مع الجيش، وتحميه إرادة، لا تقبل التفريط، ولا معادلات المقايضة، بغيضة المأرب.
العجب ممن يحاولون أن يمارسوا حيل الضغط على بلد حر أمين؛ ليتقبل تغييرات جيوسياسية، ليست على أرضه؛ لكن تأثير، ومركز الثِقل في المنطقة، يقوم على دولة عظيمة الشأن، تحافظ على قيمها، وتعضّد من نسيج منتسبيها، وتقدم الإعانة، والمساعدة، ليس لطالبيها فقط، بل، لكل من تصيبه نازلة، أو تحدث لديه ثائرة، تتسبب في إشعال فتيل النزاع بين الأخ، وأخيه؛ ونقولها بكل هدوء، قدر مصر أن تتحمل ما لا يستطيع أن يطيقه الآخرون؛ لأنها صاحبة جيوسياسية ثابتة، وراسخة بجغرافيتها، وتاريخها، وشعبها، وقيادتها المخلصة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.