تعود الوقائع إلى بداياتها فى دوّامةٍ لا تنتهى ولا تتوقَّف، وليس مُهمًّا أكان ذلك بقصدٍ أم بخطأ غير محسوب. الطريق إلى الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة، فما بالك إن كانت النيَّة أصلاً محلَّ شَكٍّ!
تكرُّ السبحة فى يدِ حماس إلى أن تفرغ من حبَّاتها، فيُمسك زعيمُ الليكود بطرف الخيط ليعقد منه مشنقةً للحركة والقطاع. وكلَّما قُطِعَت واحدةٌ أو تعطّلت نسبيًّا، تُعاد الكَرَّة من جديد.
وإذا كان من مصلحة الاحتلال أن يحرفَ الأنظار عمّا يجرى بحقِّ الغزيين، فما من فائدةٍ للقضية ومنكوبيها فى مجاراته، ولا التسليم له باستلاب السردية وتقليبها على كلِّ الوجوه الظالمة، لدرجة إثارة الغبار فى فضاء المأساة، أو إطفاء وَهجِها كلّما اتَّقَد وتعاظمت حماوتُه.
وأحدثُ مُراوغةٍ من جهة النازية الصهيونية، أنها أزاحت جانبًا أعمال الإبادة الجماعية والتجويع المُمَنهَج، واستحضرت مقطعًا مُصوَّرًا تطوَّعت به آلةُ الإعلام الحماسية، لتُعيد تكييف المسألة على صورة الصراع المتكافئ، وتذرَّ رمادها الدعائىَّ الوقح فى عيون العالم.
ولهذا، يلتئمُ مجلسُ الأمن الدولى اليومَ فى جلسةٍ طارئة، على ما أعلن مندوبُ إسرائيل الدائم دانى دانون، وليست الخطوةُ لوَقف العدوان المفتوح منذ اثنين وعشرين شهرًا، أو إنهاء الحصار الخانق والتصدِّى لوحشية تسليح الطعام، بل لأنَّ فردًا أو اثنين من أسراه يَجوعون كما يجوع أطفالُ غزَّة، ولا تحتمِلُ عصابتُهم مُرهفَة الشعور أن تراهم على تلك الصورة البائسة.
وبنادقُ التحرُّك الجديد ذخّرتها الفصائلُ لإغاظة العدو، أو لغَرضٍ مُضمَرٍ لم يَعُد بمقدور أحدٍ أن يجزم بصفائه واعتدال رهاناته. وذلك عندما أفرجت كتائبُ القسَّام وسرايا القدس التابعة لحركة الجهاد عن مشاهد للأسيرين المُحتجزين بالقطاع: روم براسلافسكى وإفيتار ديفيد، هَزيلَيْن من أثر الجوع المفروض على القطاع، فيما بدا الأخيرُ يَعدّ أيَّامَه، ويحفُر قبرَه داخل أحد الأنفاق.
تأجَّج الشارعُ العِبرىُّ غضبًا من الحكومة أوَّلاً، ومن الصورة الصادمة لوعى مُجتمعٍ اعتاد أن يَقتُلَ ولا يُقتَل، ويُجَوّع الآخرين لا أن يُجَوَّع أفرادُه.
أصدر نتنياهو بيانًا مُعجّلاً يشجُب ويدين ويُهدِّد، ثم أعلن أنه تواصل مع رئيس لجنة الصليب الأحمر الإقليمية، طالبًا رعاية أسراه ورفدَهم بالإمدادات الحيوية، ونشطَتْ «الهاسبراه» على أعلى إيقاعٍ دعائىٍّ مُمكن، وصولاً لجلسة مجلس الأمن.
والحق، أنَّ الوقائع على الأرض أفدح من المُواكبة الإعلامية هنا وهناك، وأثقل كثيرًا من كلِّ الدعايات مهما كانت احترافيَّةً أو مكشوفة الوجه. وما طال المنكوبين العُزّل فى غزَّة يتخطّى إمكانات التحريف والتضليل والتفلُّت من المسؤولية، لكنها تكئةُ الجانى عندما تضيقُ عليه الهوامش التى كانت واسعةً، ويتشبَّث بأيّة قشّة تعصمه من الغرق فى لُجَج جرائمه الفادحة.
وبقدر ما يُفهَم موقفُ الحماسيين من إذاعة تلك المشاهد، فإنه لا يُبَرَّر إذا ما كنَّا نبحث عن الحصافة واستثمار المَظلَمة، كما لا يفيد عمليًّا لجهة فضح المُحتلّ أو مُجابهة روايته، والتصدّى لسلوكه المُتجسّد بكل صور البطش والترويع ومحاصرة الحياة حوالى الناس وداخل أمعائهم الخاوية.
ولا حاجة من الأساس للقول إنَّ المجاعة التى يُعاينها العالمُ من أدناه إلى أقصاه، تمسُّ عشرين رهينةً تتبقَّى لدى الفصائل، فيما يعرفُ كلُّ ذى بصرٍ وبصيرة أنها تهوى بثِقَلِها الغاشم على رؤوس مائةِ ألفِ ضعفٍ لهذا العدد من أبرياء غزّة. يتعيّن إبقاء الصورة صافيةً، والبرواز خالصًا للضحايا الحقيقيِّين، من دون مُناكفة أو مُنافسة.
ما قامرت عليه الحركةُ فى «الطوفان» سدَّد الغزِّيون ضريبتَه من اللحم الحى، وما أنجزه الشعبُ بالشرايين النازفة والزحف على البطون، يُضيّعه القادةُ بالاستكبار والمُناطحة وخِفّة السرد واستسهال بناء الرواية.
كما لو أننا إزاء حكاية مُوجَزةٍ، وبائسةٍ، عن كيف تأخذُ قضيَّةً عادلة لتُسلِّمها على مَذبح عدوّها مجّانًا، ثم تنتزعُ المَظلمةَ الصافية من أصحابها، لتبتذلها فى لعبة المُكايدة و»عَضّ الأصابع» مع خصم أقوى وأشرس ويُلامس سقف الدناءة أو يتخطّاه.
وما يُصَعِّبُ التسليم بفكرة الارتجال والعشوائية، أنها ليست المرَّةَ الأُولى للأسف. سبقَ أن صرّح المُلثّم «أبو عبيدة» فى بادئة الطوفان بأنهم سيقتلون أسيرًا عن كلِّ عدوانٍ أو عملية قصف،، فخلط الأوراق وساوى الجناة بالضحايا، مع إفساح مجال عريض للوَصْم والتشويه وتعميم التهمة على الجميع.
وعندما أُبرِمَت الهُدنة، اتَّخذت الحركةُ من عملية تبادُل الرهائن منصَّةً للاستعراض والرسائل الأيديويولوجية، وصلَتْ آثارُها الشعبوية إلى توابيت أربعةِ قتلى بينهم طفلان، ما أثار الاستهجان من بعض الدوائر الغربية المنحازة أصلاً، ومنحَ عصابة الحُكم فى تل أبيب فرصةً لنَقض الاتفاق، والانقلاب على صفقة التهدئة ثُلاثيّة المراحل بعد مرحلتها الافتتاحية.
وخلال المداولات الطويلة فى ربيع العام الماضى، استبقَ قادةُ الخنادق ما كان مُنتَظَرًا من ردِّ مُنَعَّمِى الفنادق على الورقتين المصرية والأمريكية بشأن الهُدنة، عبر إطلاق مقذوفاتٍ هيكليَّة عديمة الأثر على مُحيط كرم أبو سالم جنوب شرقى القطاع، فكانت هديَّة مجّانيةً للعدو فى مصفوفةٍ يَستعصى حصرُها من العطايا، والمكرمات التى لا تليقُ بطَرفٍ ضعيفٍ مأزوم، لا يتورَّط وحدَه فى الفاجعة، إنما للأسف الشديد يَجرُّ من ورائه مليونين أو يزيد.
والخِفَّة ذاتُها جاءت من جهة الحلفاء فى محور المُمانَعة، منذ أعلن حزبُ الله دخولَه على خطِّ «طوفان السنوار» بحرب الإسناد والمُشاغلة، بما لم يَشغَل الصهاينة أو يسند ضحاياهم، واستجلب العدوان والاحتلال إلى تُخوم لبنان القريبة أوّلاً، ثم الضاحية وعموم الدولة لاحقًا.
وذلك فضلا على أنه فتح كُوّة فى جدار الشيعية المُسلَّحة من جهة الشام، وعرَّى هلالها الممدود من طهران إلى بيروت مرورا بالعراق وسوريا، ما أتاح لنتنياهو أن يتقصَّد معاقلَ الحرس الثورىِّ، ويستدرج إيران بنفسِها إلى الاشتباك المُباشر، لينتهى الاستخفاف بالحوادث بعد لَجَجٍ ومُماطلة إلى إسقاط نظام الأسد، ومَرَح الطائرات المُوشّاة بنجمة داود الزرقاء فى سماء فارس، وعلى هامات قادتها، وفوق المعاقل الحصينة لأُصولها النووية الثمينة.
تحصَّل عن الاندفاعة الهائجة، ومواكب التشغيب والعنتريات الفجَّة، أنْ زادت وتيرةُ القتل الهمجىِّ فى غزّة، وانصرفت أنظارُ العالم أيَّامًا وأسابيع عن المحرقة الدائرة، كما تيسَّر لائتلاف القوميِّين والتوراتيين أن يجتاحوا جنوبَ القطاع فى واحدةٍ من تلك الرقصات الاعتباطيَّة، وأن يُسيطروا على مدينة رفح ويُحكِموا قبضتَهم على معبرها البرىِّ مع مصر من جانبه الفلسطينى، بما سَهّل عليهم ضربَ الحصار الكامل والتحكُّمَ فى الجغرافيا وما عليها بإرادةٍ فردية خالصة.
يُفتَرض ألَّا يُلدَغ المؤمنُ الكَيِّسُ من جُحرٍ مرَّتَين، لكنَّ فوران الأيديولوجيا الأُصوليّة يُشوِّه معنى الإيمان فى وعى الفصائل المأخوذة بالميتافيزيقيا وسرديَّات الأزمنة الغابرة، فيذهبون بالتبعية إلى الجُحر الواحد مرّةً بعد أُخرى بلا يقظةٍ أو ملل، ولسانُ حالهم يُحاكى قولةَ نزار قبَّانى عن الحب: «لو لم نجده عليها لاخترعناه»، غير أنهم يُغازلون بها الوهمَ والتصَلُّب الغبىَّ، وتكرار التفاصيل بافتراضٍ ساذج لأنَّ المُقدمات المُتشابهة قد تُفضِى لمآلاتٍ مُغايرةٍ ومُتمايزة.
يسمعُ المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف من خليل الحيَّة ورفاقه ما يُثلِجُ صدرَه، أو يفهم رسائلَهم المُوارَبة على وجهٍ غير دقيق، فيخرج مُعلنًا أنَّ حماس مُوافقةٌ على تسليم السلاح وجاهزةٌ للتنفيذ، والأخيرة تنفى الأمرَ فى سياق التفاوض الراهن، وتزيدُ على نَفيها بأنَّ السلاح أصلٌ ثابت حتى قيام الدولة المُستقلَّة وعاصمتها القدس، بينما تتضارَبُ أطروحتُها بين القبول بحلِّ الدولتين وفق استراتيجيتها الصادرة بالعام 2017، وشعار «الوقفية الإسلامية» على كامل الأرض بين النهر والبحر، مع مُواصلة اختصام مُنظَّمة التحرير، اتّصالاً بالتزامات أوسلو وأنها اعترفت بالدولة العِبريَّة.
تتعثَّرُ الحركة بين الأيديولوجيا وفروض اللحظة الراهنة، وهو مِمَّا يُغفَر للمُقاوم الفائر بالضيق والعاطفة أحيانًا، ولا يليق إطلاقًا بالسياسىِّ المُتصدِّر لواجهة المشهد، والمسؤول معاش الناس وأُصول قضيَّتهم، والحركة تقبض على السيفين، وتُكسِّر بالواحد منهما نصلَ الآخر.
نتنياهو أكثر الناس عِلمًا بذاك التناقُض واستغلالاً له، فيعزِفُ لحنًا جنائزيًّا على أوتار القسَّام، مُتطلِّعًا إلى رقصةٍ استسلامية مُعمَّاةٍ مع المكتب السياسى، عبر صفقةٍ إلغائيَّةٍ لكلِّ صُوَر النضال الأخرى، من دون أن تُثبِّت راية أجندة التنظيم أو تستبقى رايتَه.
وما فات، يحملُ إشارةً مُهمَّة إلى أن حديث ويتكوف الأخير للضغط والاستدراج، ويتقصّد تصليبَ الخيار الحمساوىّ لا تليينه وتفكيك عُقَدِه المُستحكمة، لأنَّ الربح مضمون على الوجهين فى تلك المُواجهة: حرب لا تُبقِى ولا تذَر، أو مُهادنة تُعوّق المسارَ التحرُّرىَّ، بإزاحة المقاتل دون تصعيد المفاوض، أى أن تبقَى الحركةُ حتى تحترق وتحرق الجميع معها، أو ترحل دون أن تُخلّى مكانَها للمنظمّة والسلطة فى رام الله.
الدلالةُ جَليّةٌ للغاية فيما سُرِّبَ للإعلام العِبرىِّ قبل يَومَين تقريبًا، بالحديث عن التوافُق بين واشنطن وتل أبيب على صفقةٍ مُحدَّثة، تدور خلاصتُها فى نطاق إنجاز مُبادَلةٍ واحدةٍ لكلِّ الأسرى الباقين، أحياء وجثامين، وأن تُلقِى الفصائلُ سلاحَها وتُغادر أُفقَ «اليوم التالى»، ليكون فى عُهدة إدارةٍ دوليّة تحت إشرافٍ مُباشر من الولايات المتحدة، وإلَّا فالبديل ضوء أخضر من البيت الأبيض بتطوير العملية العسكرية، بغرض القضاء الكامل على بقايا المُقاومة.
ومعلومٌ بالضرورة أنَّ المُناضلين الأطهار لن يُعطوا الدَّنيّةَ فى دينهم، إنما لا مانعَ من التضحية بالمواطنين، وبأهداب الوطن المُتآكلة أصلاً.
الخللُ نابعٌ من أنهم اعتبروا الطوفان إنجازًا، ووَطّنوا اعتقادهم فيه على معنى النصر الخُلَّص، ولم يَعُد فى أذهانهم أىُّ هامشٍ للنظر فى احتمالية الهزيمة، والتعاطى معها بحقِّها، وبما تستوجِبُ من ديناميكيَّةٍ واستدراك وتوازُنات.
وتلك العُصابيَّة العضال تقودُهم إلى تفسيراتٍ خاطئةٍ تمامًا، ومُتكرّرة على امتداد طريق النكبة الثانية، من عَيّنة أنَّ طُولَ أَمَد الحرب دليلٌ على ضَعف العدوِّ وعجزه عن الحَسم، أو أنَّ مساعى البيت الأبيض لإنجاز الصفقة ناشئةٌ عن تضرُّر مصالحه، أو انتدابه لإنقاذ الحليف من وَرطته الوجودية المُهدِّدَة للكيان ومهامّه الوظيفية.
يغيبُ عن العقل بالكُليّة أنهم أعادوا حزب الله إلى زمن التأسيس الهَشّ، ووصلوا إلى أعماقه ثم نقَبوا باطن الأرض حتى نالوا من زعيمه التاريخى. وتعمَى الأبصارُ عن إعادة هندسة الجغرافيا والحُكم فى دمشق، والذهاب والعودة من إيران كأنهم فى نُزهةٍ صيفية سهلة، بجانب انفتاح شرايين الإقليم بكامله على طاولة الليكود وعصاباته التوراتية، ضمن تصوّرٍ شامل، وإن لم تكتمل ملامحُه، لإعادة ترسيم الخرائط والمعادلات الجيوسياسية على امتداد المنطقة.
الذين أحرزوا كلَّ تلك الانتصارات فى عدَّة جبهات، ليسوا عاجزين على الأرجح عن تقليب تُربة القطاع ونفضِه رأسًا على عقب، وإنْ بجرعةٍ أشدّ من العُنف والتقتيل واستباحة البشر والحجر، إنما المصلحة بعيدةُ المدى تظلُّ كامنةً لديهم فى خزَانةٍ أبعد من استعجال الحَسْم، أكان بمعركةٍ أبوكاليبسيَّة أشد ضراوةً من سابقاتها، أم بصفقةٍ ناعمة، ولو رفعَتْ فيها حماسُ الرايةَ البيضاء.
يقولُ ترامب بلا خجلٍ إنَّ ما يحدُثُ فى غزَّة ليس إبادةً جماعية. صحيحٌ أنّ المشاهدَ مُروِّعة ومُؤلمة، لكنه يصوّرها كما لو كانت بالمصادفة، أو أثرًا جانبيًّا مقبولاً لأنهم «فى حرب»، بحسب ما ردَّ على سائلِه.
والمُضمَر من الرسالة، أنَّ النزحَ المُتواصِلَ من بئر الدم لم يَصِل إلى قعرها بعد، والضمير مُنَوّم فعلاً، وعلى أرصفته براحٌ للمَزيد. أى أنه يُهدِّدُ من طَرَفٍ خَفىٍّ باستمرار المَقتلة ما لم يقع التسليم، فيما لا يرغبُ ذئبُ الليكود حقيقةً فى الإجهاز على فريسته بالضربة القاضية، فكأنها جولةٌ مفتوحة على الفراغ، ومُعلَّقةٌ بكاملها على نوايا تتخطّى ما يُساقُ ظاهرًا من ذرائع ومُطالبات.
نتنياهو أشدُّ الراغبين فى الحرب، وأكثر الناس فرحًا بحماس ومواقفها المُرتبكة والمُتضاربة. ما تزالُ ورشةُ إشاعة الهلع واليأس وتكفير الغزِّيين بالأرض والقضية مُشرّعةً على احتمالاتٍ شتّى، ولم تُنجِز أثرَها المطلوب بحذافيره إلى الآن.
ليست الغاية فى تحييد الحركة، ولا إحلال بديلٍ محلىٍّ أو خارجىٍّ عنها، إنما فى اقتطاع غزَّة لصالح الإدارة العسكرية المُباشرة، أو استعادة بُؤَر الاستيطان بالتوازى مع محاولات الإزاحة الديموغرافية وكَنس البشر بعيدًا إلى ما وراء الحدود.
لذا، فإنَّ المُعلَن أو المُسَرَّب عن مُفردات الصفقة المُتَّفَق عليها مع الحليف الأمريكىِّ ليس مِمَّا يرضيه ويُشبِع نهمَه، وربما لا يرتاحُ لها بأكثر مِمَّا تضيقُ بها حماس، وتشعرُ بالبَرَم من سَوقِها ومحاولة تمريرها بالترغيب والترهيب، والسبيل الوحيد لهذا أن يُوظِّفَ الخصمَ لإفسادها، وأن يجُرَّ الفصائل للتواطؤ على نفسِها وبيئتها المُهشَّمة تمامًا.
وانطلاقًا من المُعطَى السابق، فالتطلُّع إلى الوراء ومُقاربة الماضى عن وعىٍ، يقطعان بأنَّ «الطوفان» لم يُفجِّر أمواجًا من الغضب والإرعاب فى وجه الاحتلال، كما أُريد أو توهَّم صانعوه، بل أدار مُحرّكات العدوّ وملأ خزَّانات أجندته الإحلاليَّة الإلغائية بالوقود.
كلُّ انتصارٍ للذات من جهة الحماسيِّين هزيمةٌ للموضوع، وخذلانٌ لفلسطين كعنوانٍ وحيدٍ أصيل، لا نِدَّ له ولا بديل عنه. التعالى على الصفقات مهما كانت سيِّئةً يُضاعف التكاليف، ويستدعى الأسوأ، ويُباعِدُ بين المعنوىِّ والمادىِّ على طريق الوطن.
مُناطحةُ العدوِّ الغاشم بالسلاح تمكينٌ له من رقاب اليائسين ومَعِدَاتهم، ومُكايدتُه بالخطابة والصُّوَر الدعائية تجديدٌ لسرديَّته المُنتَحَلة، وإنعاشٌ لمشروع تيَّاره اليمينىِّ الأشدّ تطرُّفًا، كلَّما اختنق بجرائمه، أو تقطَّعت أنفاسُه بحثًا عن مزيد من الأُكسجين. إنها إعانةٌ ضِمنيّة له على استعجال المُرجأ، والمُجاهرة بما كان فى الأدراج، واستخلاص الكعكة فى زحام الفوضى والمآسى، ليرتدّ طرفُ الصراع المهزوم فعلاً، بهزائم أكبر وأقسى، وقاصمة أيضًا.
كثيرًا ما تكون الخسارةُ القريبة أفضلَ من المكسب البعيد، لكنها فى بعض الأحيان قد تصيرُ واجبًا، إذا تأكَّد للناظر بتَجرُّدٍ وسَويّة سليمة أنَّ المؤجَّل أشدُّ سوءًا من المُعجَّل، والمخبوء وراء الظهور أفدحُ من المطروح فى العَلَن، ومن المنظور على سياج الحصار وأبراج الدبابات.
تَنَحِّى حماس أو تَنحِيَتِها استنقاذٌ للقليل المُتبقِّى، وفرصةٌ لإيقاف التراجيديا قبل فَصلِها الأخير الأكثر سوادًا ومأساويَّة.
نَفضُ الذرائع بدلاً من تعهُّدها بالرعاية وتجديدها على فواصِلَ مُتقاربة، التواضُع أمام وجيعة الناس وعدم التشغيب على المَظلَمة، والاستدفاء بالمُحيط المُخلص للقضية والموجوع بها أيضًا، وقبل كلِّ ذلك الارتداد من طريق الفُرقة والتشظِّى، والاعتذار عن الانقسام بمُصالحةٍ تُرتِّبُ الأوراق والمواقع، ليتقدم الأقدر على تغيير طريقة اللعب، ويحلّ مكان الأضعف عن استكمال المُباراة بمُعادلاتها المُختلَّة.
كلُّها أولويَّاتٌ واجبة، وفَرضٌ لا فَضْل، ومَنفَذٌ أخيرٌ لإثبات أنَّ من رفعوا شعار القضية وتربّحوا منها، أخطأوا دون قَصدٍ أو تواطؤ، ويتحلَّون بشجاعة الاعتذار والتصويب، لأنَّ الفاصل بين الشرف والخيانة ما يختارُ المرء بعدما تتكشَّفُ له الغوامض، وتصيرُ الحقائقُ واضحةً وُضوحَ شمس الصيف الحارقة، وقاسيةً قسوة الموت والجوع على مئات آلاف الغزِّيين الأبرياء.