لم يعدم نجيب محفوظ وسيلة للوصول إلى المقهي فقد كانت عادة يجد فيها سلواه فتعددت مقاهي أديب نوبل منها المقهى الذى حمل اسمه في الجمالية وهو مقهى نجيب محفوظ الذى قال صاحبه في أكثر من لقاء إنه طلب من نجيب محفوظ تسمية المقهى باسمه فلم يرفض بل وافق ومضى له على الحائط كنوع من المباركة.
وأحب الأدباء منذ زمن بعيد الجلوس في المقاهي فكانت عادة عند أغلبهم ولم يكن الجلوس على المقاهي للكتابة فقط فقد رأينا الأدباء يختارون مقاه معينة للجلوس فيها واللقاء بها لكن قد يكون المقهى نفسه تعبير عن رغبة في ان يختلى الإنسان إلى نفسه وسط أناس لا يعرفهم ليكون واحدا معزولا إلا عن نفسه.
المجلس السكندري
انعقد مجلس نجيب محفوظ في مقاه عدة في القاهرة والإسكندرية منها مقهى نجيب محفوظ والفيشاوى وقشتمر وفى الإسكندرية انعقدت جلسته مع توفيق الحكيم بمقهى "بترو" فى الإسكندرية الذى لا نبالغ إن قلنا إنه تحول لمنتدى ثقافى فى أشهر الصيف رواده هم كبار أدباء مصر وفى مقدمتهم نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوى وعبد الحميد جودة السحار وحسين فوزى.
كتب نجيب محفوظ في جريدة الأخبار عدد يوليو عام 1987 مقالا ذكر فيه التالى عن المقهى وكيف اكتشفه وجلس فيه لأول مرة:
تعرفت بالأستاذ توفيق الحكيم عام 1947 بعد صدور روايتى "زقاق المدق" ووقتها قال لى الأستاذ محمد متولى مدير الأوبرا إن توفيق الحكيم يريد أن يلتقى بك أنه يجلس في المقهى المواجه للبنك الأهلي.
رحت أقابله، سألنى.. أنت بتروح الإسكندرية؟ قلت له: نعم، قال: إنه يقعد في مقهى في سيدى بشر، وفى طريقى اليه في مقهاه، مررت في طريقى بمقهى هادئا اسمها بترو، بينما مقهاه كانت على الرصيف الآخر الشديد الازدحام.
قلت له: أنا شفت مقهى معزولا وهادئا تستطيع أن تخلو فيه مع نفسك ومع أصحابك، ومنذ ذلك الحين بدأنا الجلوس على مقهى بترو، وبذلك أنا الذي اكتشف بترو، وبعد الثورة اكتشفها الباشوات وأصبحت مقرهم.
نجيب محفوظ والعزلة
قال نجيب محفوظ في لقاء تليفزيونى نادر إنه لم يكن يذهب إلى جلسات المقاهى مع الأصدقاء إلا حال استدعائه وهو في ذلك يفرق بين صداقته مع توفيق الحكيم وسلامه موسى وعلاقته بطه حسين والعقاد وفى اللقاء يخبر المذيعة أن الكل أصدقاؤه لكنه لم يكن يتحرك إلا حال الاستدعاء بمعنى أن توفيق الحكيم استدعاه للجلوس في مقهى بترو وكذا فعل سلامة موسى وفيما عدا ذلك فإن نجيب محفوظ فضل العزلة كما ذكر هو بنفسه في ذلك اللقاء.
من الشيطان يعظ نقرأ الفقرة التالية "إنه يعيش وحده في عزلة تامة، لا يمارس الحب ولا الزواج ولا حق له في التعبير عن ذاته. إنه كامن في أعماقه في ذل، يغلي بالحنق، ويحلم بالثورة. غارق في العبث الذي وجد فيه الحل لمتناقضاته الماضية. هو الذي أخرجه من تردده المعذب بين الإيمان والإلحاد، بين الديموقراطية والحكم المطلق، بين الماركسية والرأسمالية. هو الذي أنقذه من الهياكل الخاوية ولكنه أصابه بمرض جديد، مرض الفراغ والرعب".
ولننطلق إلى اقتباس آخر :"العزلة هي عدم انضمامك إلى تلك النزعة التي معظمها تنافق".
ولم يعتزل نجيب محفوظ الكتابة أبدا بشكل نهائي، ولكنه توقف عن نشر أعماله الجديدة بعد عام 2004، وكتب "أحلام فترة النقاهة" التي نُشرت بعد وفاته وخلال حياته، توقف عن الكتابة لعدة سنوات في فترة ما بعد ثورة يوليو 1952، ووصفها بـ"سنوات الجفاف".
ولننطلق إلى سنوات الجفاف ولنعتبرها سنوات عزلة فقد توقف نجيب محفوظ عن الكتابة بعد الثلاثية، ودخل في حالة صمت أدبي، انتقل خلاله من الواقعية الاجتماعية إلى الواقعية الرمزية ثم بدأ نشر روايته الجديدة أولاد حارتنا في جريدة الأهرام في 1959.
"مَن اعتزل الناس، سلم مِن شرهم" هذا اقتباس آخر من نجيب محفوظ يعبر عن رأيه في اعتزال الناس، فمن اعتزل الناس أمن شرهم وربما يكون ذلك هو السبب الذى جعله لا ينشر خبر زواجه فالسؤال الباقى هو كيف أخفى خبر زواجه لسنوات لكن هذا الفعل له دولالة هي تفضيل العزلة على الأقل فالرجل الذى يخفى زواجه محب للعزلة في أعماقه بطبيعة الحال.
وفى عام 1957، أجرت مجلة صباح الخير، حوارا مع الأديب والسينارست وقتها نجيب محفوظ، وأثناء الحوار توجهت إليه المحررة التى تجرى الحوار معه بسؤال وطالبته الإجابة بكل صراحة: "لماذا لم تتزوج واحدة ممن احببتهن"؟، وكانت إجابته على أصدقائه وزملائه حول تلك السؤال أيضا أن "القطار فاته".
الغريب أن وقت إجراء صاحب الثلاثية للحوار الذى ذكرناه، كان متزوجا بالفعل من السيدة عطية الله إبراهيم، قبلها بثلاث سنوات، وحتى أهل نجيب محفوظ لم يكونوا يعلمون أنه متزوج بالفعل، بل لديه أبناء، وحتى أقرب أصدقائه، وبأن هذا السر الخطير سيستمر لمدة 10 سنوات كاملة.