مها عبد القادر

وعي الواقع واستشراف المستقبل

الجمعة، 29 أغسطس 2025 02:47 ص


كثيرًا ما يلح علينا تساؤل جوهري يفرض نفسه بإلحاح في كل مرحلة من مراحل التحولات الكبرى التي يشهدها العالم ما أهمية أن نتدارس الواقع الذي نعيش فيه؟ ويعد هذا السؤال مفتاح لوعي يضعنا أمام أنفسنا أولًا، ويمنحنا القدرة على إعادة قراءة حاضرنا بموضوعية، بعيدًا عن الأوهام أو الانبهار الزائف، والإجابة الصادقة على هذا السؤال تشكل الخطوة الأولى على طريق الوعي والبناء والتغيير، فهي التي تحدد لنا من أين نبدأ، وكيف نتعامل مع معطيات زمن شديد التسارع، لا يرحم المتباطئين ولا يجامل الغافلين.


ويفتح التأمل في الواقع وتحليله بوعي منهجي أمامنا آفاقًا رحبة، ويمنحنا القدرة على رؤية ما وراء المشهد، فالتحليل الرصين يتجاوز تسجيل الوقائع أو رصد الظواهر إلى تشخيص مواطن الخلل ورصد نقاط الضعف التي أعاقت مسيرتنا، سواء أكانت هذه الثغرات متجذرة في البنية المؤسسية، أم متغلغلة في أنماط التفكير السائدة، أم منبثقة عن عوائق اجتماعية وثقافية كبّلت الطاقات وأبقتنا على هامش مسيرة التقدم.


غير أن التشخيص الدقيق يمتد إلى ما هو أعمق من كشف العيوب وتعداد المثالب، فيضيء لنا مواطن القوة الكامنة في واقعنا تلك التي ربما أهملناها، أو لم نحسن استثمارها الاستثمار الأمثل، وهنا تتجلى قيمة التحليل الواعي حين يتيح لنا إعادة اكتشاف مواردنا الخفية، ويوقظ فينا الثقة بأن كل مجتمع يحمل في داخله بذور النهوض إن أحسن قراءة ذاته، ويصبح فهم الواقع أشبه بمرآة صافية تكشف ما وراء الصورة السطحية، وتدعونا إلى مواجهة الحقائق كما هي فالمواجهة الصادقة مع الواقع هي الشرط الأول لأي تغيير، إذ لا يمكن إصلاح ما نتجاهله، ولا يمكن البناء على أسس مضطربة لم نتبين طبيعتها بوضوح.


ونخلص أن دراسة الواقع فن لاكتشاف الفرص الكامنة في عمق الأزمات فهي تجمع بين بعدين متكاملين التشخيص الدقيق للعلل والعوائق من جهة، والقدرة على استشراف ما تحمله هذه العوائق ذاتها من إمكانات غير متوقعة من جهة أخرى، وهذا هو جوهر الوعي الحقيقي أن نرى في كل أزمة بذرة لفرصة جديدة، وفي كل عائق دعوة إلى الابتكار والتجديد وبهذا الفهم تتحول الأزمات إلى جسور تعبر بنا نحو آفاق أرحب من النمو والنهضة.


ونستطيع من خلال دراسة الواقع بوعي نقدي، أن نبني جسرًا متينًا نحو استشراف المستقبل؛ فالمستقبل يصاغ على قاعدة صلبة من معرفة دقيقة بالمعطيات الراهنة، حينها نكون قادرين على تحديد الغايات الغائبة، وصياغة مستويات الطموح التي نصبو إليها، ثم اختيار الوسائل الأكثر كفاءة لتحقيقها. وبذلك، تصبح دراسة الواقع بمثابة عملية تشريحية ضرورية تمكننا من صياغة خريطة طريق واعية، ننتقل عبرها من مرحلة الوصف والتشخيص إلى مرحلة الفعل والإبداع.


إن الوعي بالواقع هو قاعدة لصناعة القرارات الرشيدة، فالقرار السليم يستند إلى قراءة دقيقة للمعطيات، واستشراف مدروس للمخاطر المحتملة، مع وضع خطط بديلة قادرة على مواجهة المتغيرات، وبهذا المعنى، يصبح تحليل الواقع ممارسة استراتيجية تمكّننا من الانتقال من ردود الأفعال المتفرقة إلى المبادرات الواعية، ومن العشوائية إلى التخطيط، والرؤية طويلة المدى.


وتمثل القراءة الجيدة لمعطيات الواقع الخطوة الأولى نحو بناء قدر أكبر من المرونة، سواء على مستوى المؤسسات أو على صعيد الأفراد، فالفهم الواعي لواقعنا يمدنا بأدوات تمكننا من التعامل مع المستجدات والتحديات بقدرة عالية على التكيف، دون أن نفقد الاتجاه أو نتخلى عن بوصلة الأهداف الكبرى التي وضعناها لأنفسنا، فالعالم المعاصر لا يتحرك وفق خط مستقيم أو مسار ثابت، أنما يتشكل عبر موجات متلاحقة من الأزمات والتحديات والفرص، وفي خضم هذه التحولات المتسارعة، تغدو المرونة عنصرًا جوهريًا لا غنى عنه، إذ تمنحنا مساحة لإعادة النظر في قراراتنا، وتعديل خططنا، وتصحيح مساراتنا، من غير أن نهدر الطاقة أو نضيع الغاية النهائية.


وتعد المرونة الواعية فن التكيف المبدع الذي يجمع بين الثبات على القيم الأساسية، والقدرة على تعديل الوسائل بما يتناسب مع مقتضيات اللحظة، وبهذا تصبح المرونة ركيزة أساسية لتحقيق الاستدامة، ومفتاحًا لإدارة التغيرات المتسارعة بعقلانية وحكمة، ومن خلال تحليل الواقع نمتلك القدرة على توظيف مقوماتنا ومواردنا المادية والبشرية بكفاءة وحرفية عالية، فالطاقات البشرية حين تستثمر ضمن رؤية شاملة متماسكة، وتتحول إلى قوة إنتاجية وإبداعية هائلة، قادرة على مواكبة التحولات السريعة في بيئتنا المهنية والاجتماعية، وفي ضوء ذل تتجلى أهمية الانتقال من مجرد إدارة الموارد إلى إدارة الطاقات، ومن التعامل مع الأفراد كأدوات تنفيذية إلى رؤيتهم بوصفهم عقولًا مبدعة وشركاء فاعلين في صياغة المستقبل.


فالوعي بالواقع يعد وعي بالذات؛ فمن خلال دراسة حاضرنا نعيد اكتشاف أنفسنا كأفراد وجماعات، ونقف على ملامح هويتنا وما يميزنا عن غيرنا من الأمم والشعوب، فهو وعي مزدوج يجعلنا منفتحين على العالم من موقع الثقة، ويمكننا في الوقت ذاته من الانخراط في التحولات الكبرى دون أن نفقد خصوصيتنا أو ذاكرتنا الثقافية، فالأمة التي تقرأ واقعها بوعي ناقد تصبح أكثر قدرة على صياغة مشروعها الحضاري الخاص، وعلى المشاركة الفاعلة في صناعة التوازنات الدولية، وتصبح دراسة الواقع قضية سيادية وأمن قومي، لأنها تحدد موقعنا على خريطة العالم، وتكشف قدرتنا على حماية مصالحنا ورعاية مستقبل أجيالنا.


ونؤكد أن دراسة الواقع مسؤولية مجتمعية شاملة، يشارك فيها المفكرون، وصناع القرار، والمواطنون فكل فرد هو شاهد على واقعه ومؤثر فيه في الوقت ذاته، ومن ثم فإن المشاركة في فهمه، ونقده، والعمل على تطويره، تشكل واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا، وهذا يضعنا أمام مسؤولية كبرى تجاه أنفسنا وأمتنا، لتحويل التحديات إلى فرص فحين نحسن التعامل مع هذه الأزمات بعقلية مبدعة، تتحول من أعباء تثقل الحاضر إلى قوة دافعة تفتح آفاق المستقبل.

______

أستاذ أصول التربية
كلية التربية للبنات بالقاهرة - جامعة الأزهر




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب