منذ بداية وجود الإنسان، كان الصراع بين الخير والشر حاضرًا، كما تجلى فى قصة قابيل وهابيل التى انتهت بقتل الأخ لأخيه بسبب الحسد، وظلت الجريمة ظاهرة متكررة عبر العصور، مما دفع المجتمعات إلى سن قوانين صارمة للحد منها وحماية الأمن والاستقرار، وتواصلنا مع الدكتور حسين عبد البصير، عالم المصريات ومدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، ليروى لنا أبرز القضايا التى تناولتها النصوص القديمة، ويسلط الضوء على طبيعة العقوبات التى كانت تفرض آنذاك.
وقد علمنا من خلاله أن هذه الجرائم موثقة فى دير المدينة بمدينة طيبة، إلى جانب عدد من البرديات المهمة، من بينها بردية "أبوت"، بردية "جوديا"، بردية "أمهرست"، بردية "تورين"، بردية "ليدن"، وبردية "رولين".
سرقة المقابر الملكية
تعتبر سرقة المقابر الملكية من أبرز الجرائم التى حدثت فى نهاية عهد الرعامسة، حيث تم الكشف عن تورط بعض الكهنة والعمال فى نهب مقابر ملوك وملكات الدولة الحديثة، أشهر ما تم تدوينه عن سرقة مقابر الملكية ما ورد في بردية "أبوت"، التى تؤرخ لمحاكمات جرت في عهد رمسيس التاسع، حيث تم فتح التوابيت وسرقة المجوهرات والذهب، وإعادة دفن الجثامين بطريقة مهينة.
جرائم السرقة لم تكن عشوائية، بل كانت منظمة وتضم موظفين حكوميين، وعمالًا، وكهنة، وحتى قادة شرطة، وكان هناك لصوص محترفون وتجار يشترون المسروقات ويبيعونها عبر النيل، أشهرهم كان لصا يدعى "أمون بن نفر"، وآخر يدعى "بيخال" اشتهر بلهجته المتباهية بمغامراته الإجرامية، حيث كان يتحدث بفخر عن عمليات السرقة التي قام بها، وكأنه يستعرض خبرته أمام الآخرين، النصوص تصوره أكثر كـ"راوٍ لمغامراته" وليس مجرد اعتراف متردد، لا يربط اسمه مباشرة بسرقة مقبرة الملكة إيزيس، بل ارتبط بعمليات متنوعة، ربما شملت مقابر مسئولين أو مخازن معابد.
وكانت المسروقات فادحة تضم ذهب، وفضة، وأقنعة جنائزية، وتعاويذ، وحتى أكفان المومياوات كانت تنتزع بعنف.
أشهر القضايا عن سرقة المقابر الملكية
رصدت بردية أبوت الموجودة فى المتحف البريطاني، وقائع تحقيقات استمرت أربعة أيام (من 18 إلى 21 من الشهر الثالث لموسم الفيضان)، وتوثق تفتيش عشر مقابر ملكية، ومقابر لعازفات المعابد، وعدد من المقابر الخاصة.
وخلصت اللجنة التفتيشية إلى أن عدة مقابر قد تعرضت للسرقة، وعلى رأسها مقبرة الملك سوبك إم ساف الثاني، وبعض مقابر مغنيات بيت المتعبدة الإلهية، ومقابر عامة وجدتها اللجنة كلها منتهكة.
كما تشير البردية إلى استجواب لص يدعى "بيخارو" اعترف بسرقة مقبرة الملكة إيزيس، زوجة رمسيس الثالث، لكنه فشل في تحديد المقبرة بدقة عند إعادة التفتيش، مما أثار الشكوك حول صحة اعترافه، فى خلفية الأحداث، نجد أن التحقيقات كانت تجرى فى أجواء صراع واضح بين كبار المسئولين، حيث سعى كل طرف لإثبات تقصير الآخر وتوريطه، اعترف بتفاصيل دقيقة عن كيفية دخول المقبرة، وكسر الأختام، وأخذ الذهب والمجوهرات، وغالبًا كان الهدف هو ذوبان المعادن الثمينة للاستفادة منها.
عقوبات جريمة سرقة المقابر
يحكم عليهم ببتر الأنف أو الأذنين، أو بالصلب، أو بالنفي، ولكن نادرًا ما نجد دليلًا فعليًا على تنفيذ هذه الأحكام.
الاختلاس والاحتيال
وردت شكاوى حول اختلاس حصص الطعام والمواد التموينية التي كانت توزع على العمال، بعض المسئولين والكتبة كانوا يستولون على جزء من حصص الآخرين أو يزورون سجلات العمل للحصول على مقابل دون عمل.
سجلت شكاوى بسرقة ممتلكات مثل أدوات العمل أو الطعام أو حتى الملابس، أحيانًا اتهم أفراد بسرقة ممتلكات الموتى أو العبث بالمقابر، وهي جريمة خطيرة للغاية في المجتمع المصري القديم، تشير بعض الوثائق إلى تلاعب البعض في توزيع الحصص الغذائية أو المستحقات من الدولة.
أشهر حكايات جريمة الاختلاس
من أشهر القضايا حينها قضية "فضيحة دير المدينة المالية"، وكان المتورطون الأساسيون هم: باسر – رئيس عمال، بانحسي – كاتب سجل الحصص، آمون نخت – مسئول المخازن.
عقوبات الاختلاس والاحتيال
وكانت العقوبة لكل منهم: باسر- بتر الأنف والأذن ثم النفي، بانحسي - الجلد 200 جلدة، آمون نخت - السجن المؤبد ومصادرة جميع ممتلكاته.
الفساد الإدارى
وردت في برديات عدة وقائع فساد ورشوة تورط فيها بعض كتبة الموقع ومشرفي العمال، كان يتم التغاضي عن الغياب أو التراخي فى العمل مقابل هدايا أو مال.
أشهر القضايا عن الفساد الإدارى
من أشهر القضايا حينها قضية "تلاعب في توزيع المؤن على عمال دير المدينة"، أبرز المتورطين هم: بعض الكهنة الصغار، ومشرف مخازن المعبد.
عقوبات جريمة الفساد الإدارى
العقوبة الإعدام لبعضهم، والسخرة مدى الحياة للآخرين.
القتل والاعتداء الجسدى
عثر على شواهد لقضايا قتل، منها جريمة قتل وقعت داخل دير المدينة تم توثيقها في وثائق المحاكمة، سجلت حالات اعتداء جسدي بين العمال بسبب خلافات شخصية أو مالية.
ظهرت شكاوى عديدة على أوستراكا (ألواح فخارية) وبرديات تحكي عن شجارات دامية بين الجيران أو بين الزوج والزوجة، أو حتى بين الزملاء في العمل، بعض الرجال اشتكوا من تعرضهم للضرب بعصي أو بالعصي الطويلة (smaw)، كما سجلت حالات ضرب بالأحذية أو الحجارة، وردت حالات شتم وسب علني وتهديد باستخدام أدوات حادة.
أشهر القضايا القتل والاعتداء الجسدى
من أشهر القضايا حينها قضية " جريمة قتل في طيبة"، وهي مشاجرة بين عمال من دير المدينة انتهت بقتل أحدهم بضربة على الرأس، وكان المتورط هو العامل حور محب.
عقوبة القتل
كانت عقوبة القتل العمد هى "الإعدام بالحراب".
الزنا والخيانة الزوجية
بعض البرديات، وثقت حالات زنا وخيانة زوجية، بعضها أدى إلى الطلاق أو القتل، تذكر إحدى البرديات أن عاملاً ضبط زوجته تخونه مع أحد الحرفيين في الموقع.
تظهر بعض الوثائق وجود شكاوى تتعلق بسلوك جنسي غير لائق، بما في ذلك تحرش رجال بنساء الجيران، أو حتى اغتصاب، رغم ندرة التفاصيل بسبب حساسية الموضوع آنذاك.
ووثقت البرديات حالات طلاق بسبب الخيانة أو العنف، وفي بعض الحالات حاول الأزواج نفي زوجاتهم أو طردهن من المنازل، مما اضطر النساء إلى رفع شكاوى أمام المحكمة المحلية.
أشهر القضايا عن الخيانة الزوجية
من أشهر القضايا حينها قضية "فضيحة دير المدينة"، وهي اتهام عامل من دير المدينة يدعى بانبكامن بإقامة علاقة مع زوجة زميله أثناء غيابه في العمل بالمقبرة الملكية القصة وردت في بردية جوديا.
عقوبة الخيانة
الطرد من القرية والجلد 100 جلدة.
الإضرابات والعصيان
أول إضراب عمالي موثق في التاريخ حدث في دير المدينة في عهد رمسيس الثالث، العمال رفضوا مواصلة العمل بسبب تأخر الأجور والطعام، ما شكل تحديًا لسلطة الدولة المركزية.
أشهر القضايا عن الإضرابات
كان رؤساء هذا الاضراب هم: بن أنوب، بك نخت، وعدد كبير من عمال دير المدينة، بل تم تلبية مطالبهم بعد تدخل كبار الكهنة، لكن بعض القادة عزلوا لاحقًا من وظائفهم وردت هذه القضية في بردية تورين وبردية هاريس.
عقوبة الإضرابات
لم تفرض عقوبات قاسية
السحر والشعوذة
وردت إشارات إلى استخدام بعض النساء والرجال للسحر في إيذاء الآخرين أو لجلب الحب والخصوبة، تم اعتبار بعض هذه الأفعال جرائم دينية تستوجب العقوبة.
وردت إشارات إلى اتهامات باستخدام السحر لإيذاء الآخرين، وهي تهمة خطيرة قد تقود إلى المحاكمة وربما الإعدام أو النفي، إحدى النساء اتهمت باستخدام تعويذات لإغواء رجل متزوج وإبعاده عن زوجته.
من أشهر القضايا السحر والشعوذة
قضية "مؤامرة الحريم (قضية الملكة تي)"، وهي محاولة انقلاب باستخدام السحر والشعوذة لقتل الملك رمسيس الثالث، القضية وردت في برديات المحاكمة (بردية تورين، بردية ليدن، وبردية رولين)، وكان المتورطون الاساسيون هم: الملكة الثانوية تي، الابن بنتاورت، الكاهن باي باك إمن، وعدد من المسئولين.
عقوبة السحر
الإعدام لعدد من المتآمرين سواء بالشنق أو الانتحار القسري كما حدث لبنتاورت.
إخفاء الجرائم والتواطؤ
بعض التحقيقات أظهرت تواطؤًا بين المسئولين لإخفاء السرقات، أو للتقليل من شأن الجرائم، فى قضايا سرقة المقابر، كان هناك تقاعس متعمد في القبض على الجناة.
من أشهر القضايا إخفاء الجرائم
قضية "سرقة المقابر الملكية (طيبة)" في عهد رمسيس التاسع، وهي محاولة بعض المفتشين والمسئولين التغطية على السرقات أو تأجيل التحقيقات، حيث تم تشكيل لجنة فحص برئاسة الوزير با دي آمون (وهو أحد المتورطين في القضية)، تم اكتشاف التلاعب في المحاضر للتغطية على بعض اللصوص لأنهم أقاربهم أو شركاؤهم، القضية وردت في برديات محاكمة لصوص المقابر (بردية أبوت، وبردية أمهرست).
وكان المتورطون الأساسيون هم: الوزير با-دي آمون وبعض المفتشين في طيبة.
عقوبة أخفاء الجرائم
الجلد العلني أمام العامة، النفي من طيبة إلى مناطق نائية، مصادرة الأملاك التي تم الحصول عليها بطرق غير مشروعة.