انعقد الكابينت وانفض، ولا جديد. يروح الوقت ويجىء على إسرائيل وهى مُصرّة أن تواصل تدنّيها، وأن تثبّت موقعها فى أحط صفحة من كتب المذابح والمجتمعات الدموية.
بلد كامل يسبح فى الدم؛ وحتى الواقفون على ضفاف المذبحة منهم، لا يفعلون شيئا إلا محاولة ذر الرماد فى العيون، والتعمية على جريمة دولة تُرتكب باسم شعبها كاملا، ويتشارك فيها الساسة والجنرالات والمدنيون ونخبة الرأى والفكر فى الرقص على الأشلاء وتلال الركام.
يُوقّع الأكاديميون خطابات لترفضها الجامعات، ويُدلى المسؤولون السابقون بتصريحات ظاهرها جيد، وباطنها متوحش ونازى بما لا يقل عن سلوك العصابة اليمينية الحاكمة.
وفيما يُوصّفها زعيم المعارضة يائير لابيد بأنها «حكومة السابع من أكتوبر»، فى إدانة ضمنية للإخفاق الأمنى، ونقد صاخب للتضحية بالأسرى مع الإصرار على تفويت صفقات التبادل وإفشالها، يستنكف بالتزامن أن تُطرَح المسألة على حقيقتها الكاملة، أو يُنسَب للصهيونية أنها متورطة فى الإبادة الجماعية وجرائم الحرب.
الازدواجية تحكم وتتصدر؛ ولا خلاف إلا على منسوبها فحسب، وهل تُترَك القيادة فيها لزعيم الليكود حتى إنهاء مهمة الإفناء والتطهير، أو يشاغبه المنافسون سعيا للحلول بدلا منه، والشراكة فى الغعل بدلا من الاكتفاء بتغطيته والاضطلاع فيه بأدوار الاحتيال والإلهاء.
نتنياهو شخص وفكرة. ولعل فتنته بالذات وثقته المفرطة فيها، يُعمّقان حالة السُّعار ويطرحان واقعا شديد الفجاجة والتبجّح؛ لكنه ليس استثناء على أصل مغاير، وليس طارئا من عدم لا أصل له أو جذور.
سابقوه جميعا قدّموا معادلا لا يقل رداءة، وشركاؤه الحاليون ماضون فى شق طريقهم بالحفر فى اللحم الحى، ومَن يعترضون عليه اليوم ساروا على الخط نفسه عندما كانوا فى الحكومة أو خدموا جنودا وذوى رُتب رفيعة فى جيش الاحتلال. ربما يتفوّق عليهم؛ لكنهم يقرؤون جميعًا من كتابٍ واحد.
مرّ أسبوعان تقريبًا منذ وافقت «حماس» على ورقة الوسطاء الأخيرة بشأن التهدئة، وهى تُطابق تقريبًا ما كان اقترحه مبعوث الرئيس الأمريكى ستيف ويتكوف، وتقبّلته الحكومة الإسرائيلية قبل نحو شهرين أو يزيد قليلاً. وإلى الآن لم تُطرَح المسألة فى أروقتها، ولا ردّت على المُنتظرين.
كان مُتوقَّعًا أن يشتمل اجتماع المجلس الوزارى المُصغّر على بحث الصفقة؛ لكنه اكتفى عن ذلك ببحث موضوعات الأمن الإقليمى فى سياق عمومى، وانتهز فرصة غياب الوزيرين المُتطرّفين سموتريتش وبن جفير؛ لعدم إثارة ملف العملية الموسعة وفرض الهيمنة العسكرية الشاملة على غزّة، وفى مقابل ذلك لم يقترب من الصفقة مُطلقًا، وأنهى اللقاء بعد ساعتين فقط؛ قياسًا على سابقه الذى استغرق نحو عشر ساعات فى بحث خُطّة الاحتلال.
القناة الثانية عشرة الإسرائيلية قالت إن حكومة نتنياهو أبلغت مصر بأنها غير معنيّة بصفقة جزئية مرحلية، وستتفاوض فقط على اتفاق شامل. وهو ما طرأ على مواقفها خلال الأسابيع الأخيرة، دون أن يُستَجَدّ شىء أو تتغيّر الوقائع على الأرض، فكأنها ما كانت تتداول فى اقتراحات ويتكوف السابقة، ولا أعلنت قبولها وقتها؛ إلا على نيّة الإفشال، أو تعويلاً على أنها ستُرفَض من جانب الحماسيِّين.
غزة على أرجوحة؛ إما أن تشدّها الحركة أو يُطوّحها الصهاينة. وبقدر ما أخطأت الأولى طويلاً فى تفويت الفُرَص، ثم التجأت إليها فى ظروف أعقد وتحت شروط أقسى؛ فإن حكومة نتنياهو تتشارَك اللعبة معها، قاصدةً من جانبها ومُستغلّة غباء غريمتها أيضًا، وجاهزة دومًا للانقلاب على نفسها، وإعادة تحرير أجندتها بما يُصيب أهدافها المُعلَنَة والمُضمرة كباقة كاملة.
لم تعُد الصورة غامضةً كما كانت منذ الطوفان، والمأساة ليست نتاج حربٍ اندفاعيّة تُخاض لأغراض قومية أو شخصية؛ إنما يقع الأمر فى عُهدة السياسة، ويُعبّر عن رؤى يمينية شديدة الانغلاق والتطرف، لا تُرحِّب بالحلول الهادئة أصلا، ولا تنفتح على احتمالات الشراكة، وأقصى ما تتقبّله أن يبقى الوضع على ما هو عليه، أو تمضى به الحلحلة المُمكنة إلى ما هو أسوأ.
تُريد إسرائيل الرسمية والشعبية على السواء، أن تفرض همينتها المُطلقة على المجالين الجغرافى والديموغرافى بين النهر والبحر؛ أكان بالاستيطان والاحتلال والبطش، أم بالجمود والردع المعنوى، وإما أن يرتضى الفلسطينيون بوضعية الرهينة داخل زنازين مُغلقة، أو يُناطحوا الجُدران كيفما شاءوا، مع العلم بأنها تفتح على الخارج لا الداخل.
فكرتها الوحيدة أن تُثبّت السيطرة الأمنية وتؤبّدها، ولا تتيح أى هامش للحلول السياسية، ثم أن تكبح شهوة التحرُّر لدى البيئة الفلسطينية، بحيث لا تُمارس المقاومة بأية صورة سِلميّة أو مُسلّحة، وتلك ثُلاثية متناقضة ويستحيل الجمع بينها من أى وجهٍ.
لكن التوراتيين والقوميِّين ينطلقون من ثابت أُصولىٍّ وهويّاتى لا يتزحزح، كما لا يرى الآخر أصلاً لكى نطمع فى أن يُحاوره، أو يعترف له بالوجود والحقوق المشروعة، وبقَدر اليقينية والنزوع الصفرى المُتسلِّطَيْن على عقولهم؛ فإنهم يرون اللحظة مثاليّةً نادرةً، وغير مُمكنة التكرار أيضًا؛ ولهذا يستميتون فى القبض عليها وعدم تفويتها.
لا شكَّ فى أن الإسرائيليين لا يرغبون فى السلام والمُساكنة الهادئة. الظروف وحدها قد تُحرّكهم قليلاً من اليسار واليمين إلى جهة الوسط؛ إنما القناعة العميقة أنهم يجب أن يظلّوا عند أقصى طرف بعيد، وعلى حدِّ السكّين دومًا، وما لم يكونوا مُضطرّين فعلاً ولاعتبارات وجودية أو انتهازية عالية؛ فلا مجال للتداول فى أية تنازلات، وليس عمَّا فى أياديهم فقط، بل حتى ما يتطلّعون إليه أو يعدّونه ضمن مُمتلكاتهم ولو كان فى عصمة آخرين.
التجربة الوحيدة كانت قبل ما يزيد على نصف القرن، عندما جلسوا إلى طاولة السادات واشتروا تبريد الجبهة مع مصر، بالنزول عن أطماعهم فى سيناء، والانصراف عن مواجهة اختبروا أنها ستكون أبديّة ومُرهقة فى تكاليفها. النموذج الثانى مع الأردن كان أقرب إلى الكُمون والتحضير البطىء للمستقبل؛ أما جولة أوسلو فأُريد منها شراء الوقت أوّلاً، وامتصاص الحماوة الدولية وقتها، وإعادة تصويب بعض المواقف الخارجية، وأخيرًا احتواء مسار النضال الفلسطينى بإعادته تحت سمع إسرائيل وبصرها، وضمان أن تتحدّد الجبهات ولا تتفرَّع المواجهة.
كان شرطها للذهاب إلى مدريد، أن يُلغَى قرار الأمم المتحدة رقم 3379، الذى يعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. وبموجب ذلك أزالت وصمة كُبرى كانت تُلاحقها، ومنحت الفلسطينيين نُسخةً مُعقّمة من الإدارة الذاتية، لقاء الاعتراف بالدولة العبرية كمُقدِّمة أوّلية لإعادة تعريفها على معنى الكيانية اليهودية والنقاء العرقى الخالص.
لم يكُن رابين حمامة سلام على الإطلاق؛ بل سفّاح كغيره من السابقين واللاحقين. كل ما فى الأمر أنه استقرأ السياق المحيط، وسعى إلى النفاذ من الشقوق المُتاحة، أو اختراعها؛ لتعميق حال التشظّى والانقسامات على طُول المنطقة وعرضها، وفى عُمق البيئة الوطنية الفلسطينية.
وللمرة الأولى لم يعُد المشروع التحرُّرى واضحًا فى أذهان المُلتحقين به جميعًا؛ إنما ارتبكت دوائر مُنظّمة التحرير أوّلاً، ثم دخلت عليه الأُصولية الإسلامية من نقطة عاطفية وأيديولوجية صاخبة، وشديدة التأثير والقدرة على توليد الذرائع، وتذخير بنادق الجماعات الدينية بمَددٍ لا ينفَد ولا ينقطع.
تعرّضت فلسطين لخضّة عظيمة فى وعى أبنائها؛ لأن عرفات ورجاله المُقرّبين ساروا على طريق التسوية السلمية، وحماس وشيعتها ذهبوا مذهبا آخر، وانحلّت أول عُقدة من قيود الاحتلال بهذا الانقسام المعنوى الضارب إلى الجذور، ثم أُزيحَت كل الأعباء عن كاهله بعد نحو ثلاثة عقود فقط؛ عندما وقَع الشِّقاق المادى وجرى توقيعه على الأرض، بانقلاب حماس على السلطة، وقسمة الجغرافيا بين لونين يدّعيان الحديث باسم القضية؛ فيُشوّهان معانيها لدى أهلها، أو يُبدِّدان طاقتها الكاملة، ويُجريان انقسامهما على البيئات الإقليمية الحاضنة.
وعلى صعيد العدوّ؛ فقد اقتُصّ من الشريك الإسرائيلى فى تجربة أوسلو، وغُسِلَت خطيئته بالدم فى أكبر ميادين تل أبيب. كان الاغتيال بمثابة تصويب للمسار الذى لم يكُن مُنحرفًا أصلاً؛ فالمقتول ما كان ليُضحّى بشبرٍ من الأرض، ولا ليُقيم لفلسطين رايةً.
لكنّ اليمين لا يستحسِن تلك الطريقة الناعمة، ويرى أن ما لا يتحقّق بالقوّة سيُحقّقه مزيدٌ من القوّة. وبهذا أعادت السياسة الرسمية تعريف نفسها باللغة القديمة، وأُجرِيَت قوانين الردع الخَشِن على أعلى رأس فى الدولة؛ بحيث لا يجرؤ أحد من بعده على اقتراف الخطأ أو مُقاربة مسألة التسوية أصلاً؛ ولو لأجل المُماطلة والخداع لا أكثر.
لا أحد من الساسة فى وارد تقديم القرابين الواجبة للسلام المنشود؛ لكنهم يحتاجون إلى ذريعة، والذرائع نفسها تحتاج طوال الوقت إلى ما يُبرّرها. وبموت رابين المؤسف صارت لديهم رُخصة بالتشدُّد؛ إذ لن يُضحّى قائد بروحه ولا يُريد أن يُرَى مطروحًا على الأرض برصاصة غاضبة.
وإدامة التعلّة تتطلّب ترقية الخوف ومشاعر الخطر الوجودى؛ لأن العامة ينسون أو تُشوّه الحياة نزوعهم الوحشىّ القارّ فى صُلب الفكرة الصهيونية، ولهذا كانت الحروب وعمليات «جزّ العشب» على فواصل مُتقطّعة، وتسليح حماس أو الصمت عليها، وربما التوسُّط لدى بعض الدول لرعايتها وتمويلها، كما كانت حقائب الدولارات تعبرُ من مطار بن جوريون إلى القطاع فى سيارات دبلوماسية يحميها الجيش؛ قبل أن يُطارِد ثمارها فى أيدى عناصر القسّام لاحقًا.
أوسلو أبطأت المُخطّط؛ إنما لم تَلغِه أو تُعيد هيكلته وتغيير حرفٍ من صيغته الجامدة. وما لم يَره الحماسيّون أو تعامَوا عنه؛ أنهم كانوا أداةً لتطويق السياسة، بعدما كانت السياسة مدخلاً لإعلاء خطابهم وتتويجه بالسيادة الشعبوية، ليكون مكافئًا للسلطة الوطنية فى رام الله، وقيدًا عليها، ويستنزفها وتستنزفه بأكثر مِمَّا يُوجّهان جهودهما إلى العدوّ المشترك.
ونتنياهو إلى الآن لم ينحرف عن الآلية نفسها. يُطارد الفصائل فى القطاع تحت عنوان الإفناء أو نزع السلاح، ويُطالبُ بإدارة مدنية لليوم التالى لا تكون موصولة بحماس أو السلطة، فكأنه لا يستثمر فى رواسب الانقسام فحسب؛ إنما يُغذّى طموح كل طرفٍ منهما فى وراثة الآخر. والمأساة أنهما لا يريان الرفض فى صيغته المطروحة؛ بل يأخذُ كل منهما شطرًا من الجُملة ويُخلّى بقيّتها، وإذ كان الصهاينة يرفضون المُنافس؛ فالفرصة مُتاحة بالتبعية لأن أكون بديلاً؛ ولو طال الوقت وتعثّرت الخُطى.
وما فات بالتحديد، يظلّ الباعث على استمرار رخاوة رام الله فيما يخص الإصلاح ومُلاقاة اللحظة بحقِّها، ويُعزِّز تصلُّب الحماسيين وتمترسهم وراء الهُدَن والصفقات الجُزئية على أمل أن ينجو التنظيم من المصيدة، أو يُترك القطاع سائلاً فيكون بمقدورها أن تُطلّ بعدها وأن تملأ الفراغ وفوضاه المُربكة. ولا شىء آخر يُفسّر انتقال مفاوضى الحركة من سيئ لأسوأ، والتعامل بعد اثنين وعشرين شهرًا كأنهم ما زالوا فى بادئة الطوفان، ورَهن البشر والحجر لصفقة لا ورقة فيها سوى الأسرى، ولا طائلة من وراء السلاح إلا المزيد من القتل والتجويع وإرخاء الذرائع.
يتجمّد المقاوم فيما لا يتوقّف المُحتل عن الحركة. ارتدادات الحرب على غزّة كانت تُوجب تكييفا مُغايرًا للمواقف والتصوّرات، وذهابًا إلى خياراتٍ لن تكون سهلة؛ لكنها ستظل أقلَّ قسوة مما يقع على المنكوبين العُزّل، ويُحاصر القضية كلها فى الحال والاستقبال. أما نتنياهو فابتدأ من عنوان لا تخفُت صلاحيته لدى بيئته وداعميه، ألا وهو القضاء على حماس، ومن وراء ذلك تنبُت الاقتراحات وتذبُل، ولا تتبدَّل الغاية لأن الغريم لا يضطرّه لتبديلها أصلاً.
ولستُ أُناقض سابق ما قُلتُه على الإطلاق؛ فما زلتُ مُقتنعًا بأن الوقائع ناشئة عن سياسة مركزية فى وعى إسرائيل، ومُعمّمة على اجتماعها العريض بكل فئاته وأطيافه؛ لكن حماس جعلت الوصول إليه أسهل، والتصدِّى له عُرضةً للنقد والنقض والتشغيب طوال الوقت؛ وحتى أشدّ الناس تألُّمًا لما يُصيب النساء والأطفال، ما يزال يُرفق رسائله الإنسانية الواجبة بتنويعات على سردية «الحق فى الدفاع عن النفس»، ووجوب إزاحة حماس وألا تكون شريكًا أو طرفًا حاضرا فى بنية اليوم التالى.
والمُطالبون بصفقة مُعجّلة لاسترداد الرهائن؛ إنما ينصرفُ اهتمامهم إلى الهدف القريب فحسب، وليس إنهاء الحرب عند النقطة الحالية، ولا التبرّؤ من جرائم الدولة والحكومة بحق الغزّيين. ما يعنى أن نتنياهو لو استجاب لتلك الأصوات وأبرم الاتفاق؛ فربما يكونون أوّل المُطالبين بعد إنجاز عملية التبادُل حتى آخر جثّة فى القطاع، بالعودة إلى الحرب ومُطاردة القسّاميين فى الشوارع والأنفاق.
ولا يُمكن الاستناد هنا إلى غضبة الشارع الوقتية، ولا اعتراضات جنرالات الجيش على خُطة احتلال غزّة والبقاء فيها؛ لأنها انفعالاتٌ عارضة تحتكمُ إلى دوافع عاطفية، أو أعباء لوجستية مُحتمَلة؛ ولا تنطلق من موقف قِيَمى وأخلاقى، أو اعتقادٍ راسخ وحقيقى بخطيئة العدوان، أو بوجوب التكفير عنها بمسارٍ بديل. ما يعنى أنه لا معنى لرَفع كُلفة الحرب على إسرائيل بإطالة مداها، واعتصام الفصائل بمواقف صُلبة جامدة لا تُزحزح حقائق الميدان أو تُعيد تركيب التوازنات، وكل ما تفعله أنها تزيد الضعيف ضعفًا، ولا تخصمُ من قوّة القوىّ.
ولدى نتنياهو فى لُعبته الأثيرة حُلفاء أكثر وأكبر من الأعداء، يُبدِّل بينهم بحسب الظروف، ويُوظِّف كلَّ واحد منهم ضد الآخر: شركاء الائتلاف التوراتيون ضد المُعارضة من تيّارات الوسط، والعكس، وكلاهما ضد حماس، والأخيرة مع بقايا المُمانَعة وميليشيات الشيعية المُسلّحة ضد السلطة الوطنية وخيارات الاعتدال، وفى القلب يتربّع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وقد بات أكثر إخلاصًا لأجندة زعيم الليكود من بعض رجاله داخل الحزب، ويبدو أنه خُدِعَ أو جرى ترويضه؛ لكنه يبصم بأصابعه العشرة على ما سيُقرّه رئيس الحكومة فى تل أبيب.
قبل يومين قال سيّد البيت الأبيض من داخل مكتبه إن عُقدة عزّة ستنحلّ فى غضون أسبوعين أو ثلاثٍ. ليست المرّة الأولى على أى حال؛ وسبق أن بشّر قبل التنصيب وبعده، وحتى مايو الماضى، وما أسفرت رسائله البيضاء إلا عن هُدنة فى يناير جرى نقضُها مطلع مارس قبل الانتقال من مرحلتها الأولى إلى الثانية، وهدية مجانية منحته إيّاها حركة حماس، مُمثّلة فى إطلاق الجندى مزدوج الجنسية عيدان ألكسندر دون مُقابل، وذلك إزاء موقف مُتكرّر لا ينحرف عن فكرة «القضاء على حماس»، ويرى أنه لا حلّ إلا الحل العسكرى الحاسم.
الوحيد القادر على لَجم نتنياهو يسير وراءه بتسليمٍ كامل، وما دون ذلك لا قِبَل لأحد بإنهاء حالة الانسداد القائمة، أو إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح، والمُفتَرَض أن تكون عليه. التوراتيّون قَيد عليه وسَوط فى يده، والمُعارضة مُنقسمة على ذاتها بين مقارعته لحين إجباره على انتخابات مُبكّرة، أو منحه شبكة أمان يُبرم صفقة الأسرى تحت مظلّتها، فيما يقترح بينى جانتس العودة للائتلاف بعد شهور طويلة من مُغادرته، مُقيمًا الحجة على نفسه فى الدخول والخروج، وفى كل موقف سابق أو لاحقٍ مع الحكومة أو ضد الحرب.
المشكلة أن الإسرائيليين يُوزّعون الأدوار فى مونودراما رديئة. مسرحية من فصل واحد وبمُمثّل وحيد، وكلهم يتبدّلون على الشخصية ذاتها من زوايا مُتعدّدة. ولو أُحِلّ أى منافس لنتنياهو بدلاً منه؛ فلن تختلف الوقائع أو تتغير مُجريات الميدان، وقد لا تُبرَم الهُدنة، وإن أُبرِمت لن تصمد، وفى كل الأحوال لن يُعتَرف بحقوق الغزيين والفلسطينيين عمومًا، ولن يُمَكّنوا من دولتهم المستقلة، ولا مُجرّد فرصة الحياة الطبيعة عند حدٍّ زهيد.
وإذا كانت الصورة قاتمة هكذا؛ فإن استمراء مزاعم النديّة والتكافؤ تُضلِّل بأكثر مِمَّا تنفع، وتصرف الجهود عن إحصاء كل صور المقاومة الممكنة، وفرزها والتبديل بينها، وتجاوز نقاط الضعف إلى ترقية عناصر القوّة لأقصى درجة فاعلة، أو قادرة على مُلاعبة الاحتلال بأوراق غير التى يحفظها، واستجلابه إلى ميدان يخصم من قوّته وفورانه وسرديّته المُتداعية، ويستثمر حالة الزخم المتصاعدة إقليميا ودوليًّا، ويُذخّرها لتكون بديلاً سياسيًّا يستدرك على ما فات، ويعوِّض كُلفة ما جناه السلاح على النضال.
سمعنا وسنسمع كثيرًا عن تسريبات وإفادات تُدين نتنياهو بأثر رجعى، وتُثبّت عليه تهمة العلم المُسبق بالطوفان والصمت عليه. إن صحّت فإنها تصبُّ فى صالح القصد والاستدراج، وإن كانت مُلفّقة فيجب ألا تعمى الأبصار عن واجب اللحظة، وعن تحدياتها الثقيلة والمُتزايدة.
لن تتفكّك الأزمة برحيله؛ وقد تتعقّد بأكثر مِمَّا هى عليه سواء بَقِى أو أُطِيح به. فُتِحَت شرايين المنطقة، ويُعاد ترسيم الخرائط بالترهيب أو الترغيب، وما فعله السنوار فتح بابًا لا قِبَل لورثته وحلفائهم بإغلاقه، ولا حصافة فى السير على طريقه؛ بل الواجب الارتداد عنه فورا، وعلى وجه الاستعجال.
عيون العالم على المأساة الراهنة، وعين نتنياهو على الذكرى الثانية للهجمة فى السابع من أكتوبر. ربما يتطلّع لإحراز كسب مادى أو معنوىٍّ كبير فيها؛ ليشطُب على سيرة الإخفاق، ويُحلّ مُناسبة بديلةً للاحتفال بها فى التاريخ ذاته. وإلى تلك اللحظة؛ لا يُنتظَر إحراز تقدُّم حقيقى نحو تجفيف آثار النكبة الثانية، لا سيّما أن الانقسام الفلسطينى ما زال قائمًا، وخُطى الإصلاح فى رام الله بطيئة أو مُتعثّرة.
الكابينت ليس نسخةً مُصغّرة من الحكومة؛ بل صورة مُكثّفة للدولة كلّها. المفاوض رون ديرمر فى نعومته المُخادعة لا يختلف عن الصحفيين والأكاديميين والمُتظاهرين فى تضليلهم، جدعون ساعر مثل لابيد وجانتس وغيرهما، والتوراتيون صقور فى الداخل والخارج بالكيفية نفسها. إنها مونودراما يؤدّيها نتنياهو ظاهرًا؛ إنما تكتبها إسرائيل بقضّها وقضيضها، وتتشارك عارها بكل طوائفها من دون استثناء.