حازم حسين

مطرقة المحتل وسندان الأيديولوجيا.. فى غزة قد لا يفل حديد نتنياهو وألاعيبه إلا الزمن

الإثنين، 25 أغسطس 2025 02:00 م


من الحديد وإلى الحديد يعود. ما يزال نتنياهو مُغرمًا بالتسميات التى تحجب خلف بلاغتها الخشنة، واقعَ الهشاشة الذى يعانيه ولا تُعوّضه القوة الغاشمة.
افتتح عدوانه على غزة تحت عنوان «السيوف الحديدية»، تعمية على الفشل وإهدار الكرامة وسقوط جدار الردع فوق مستوطنات الغلاف.

وبعد جولة طويلة فى «عربات جدعون»، يرفض أن تكون عمليته الجديدة نسخةً مرقومةً من سابقتها، ويميل إلى منحها صفة «القبضة الحديدية»؛ مُجدِّدًا الإيغال فى حالة الوهم والإنكار، والتعالى على الاعتراف بأن قبضته الثقيلة تشتدّ مظهرًا وترتخى جوهرًا كلما طالت الحرب، وكلّما تأكَّد عجزه عن الحسم فى الميدان أو على طاولة السياسة.

قاموس الحرب لدى إسرائيل ليس اعتباطيًّا ولا من وحى المُصادفة. ولكلِّ تسمية جِذر أو وظيفة، وكثيرًا ما تكون نابعةً من تراث الدولة العبرية، وفى إطار تعميم سرديتها ووَصل ماضيها المنقطع مع الحاضر.

وتحفل مُدوّنتها بمُسمَّيات تستحقُّ التوقُّف أمامها: الرصاص المصبوب 2008، عمود السحاب 2012، وصولاً إلى السور الحديدى فى الضفة الغربية قبل شهور.

وحتى «عربات جدعون» استُعِيرَت من التوراة، فى مُقابلةٍ لا تتناسَبُ مع السياق الراهن، إذ تتحدَّث عن مواجهة غير مُتكافئة يربحها المُتديِّنون اليهود، بينما كان الميزان فى غزَّة مائلاً تمامًا لجهة الاحتلال، ولا مجال أصلاً للحديث عن أيّة نِدّية أو تكافؤ.

وخطوة التغيير ليست نابعةً من الرغبة فى إحماء اللغة ورَفع وتيرتها فحسب؛ إنما الباعث إليها يبدأ من محاولة القطيعة مع الجولات السابقة بإخفاقاتها، ومَنح العملية المُتَّصلة هيئاتٍ مُختلفةً لكلِّ حلقة فيها عن سابقتها.

فكأنَّ العجوز الماكر يُجزّئ الصورة الكُلّية، ويُفكِّك تفاصيلها إلى وحداتٍ أصغر وأشدّ شراسة، بما يمنحه بداياتٍ مُتجدِّدةً للنزوة القديمة ذاتِها، ويُضلِّل الجمهور عن اقتفاء أثر أطول الحروب التى خاضتها إسرائيل، مع إمكانية أن يُجَمِّعَ المكاسب المُتوالية فى خزانته الشخصية، وأن يتبرَّأ من الإخفاقات أو يُحمّلها للجنرالات مُباشرةً، مُستعينًا عليهم بالابتزاز حينًا، وبالتغيير فى آخر المطاف.. وقد استهلك عددًا منهم فى كل المستويات القيادية حتى الآن، وربما يستهلك المزيد.
ومن وظائف الاحتيال اللغوى أيضًا، أنه يُرَسِّم لكلِّ مرحلة معالمها الحربية والتفاوضية على السواء، ويبنى جدارًا بعدما يفرغ من كلِّ محطة.

وبهذا؛ لا تعود التفاهمات القديمة صالحةً لإعادة الإنتاج فى الفضاء الجديد، وعلى الراغبين فى تطويق خططه السائلة أن يجاروه فى سرعة التبدُّل بين المواقف، أو يستبقوه بالتنازلات التى لم يطلبها بعد؛ وإلّا فالقتال دون أُفقٍ، والبقاء غير المشروط فى نطاق «التفاوض تحت النار»، ومطاردة جزرة حماس المُعلَّقة على فوّهة دبابة لا تتوقَّف عن الجرى بأقصى سرعة، والالتفاف المفاجئ دون إشارةٍ أو تمهيد.
يعتمد الرجلُ آليَّةً مقصودة للإرباك، ومع كلِّ الأطراف فى وقت واحد. يُرسلُ المُفاوِضين ويُذَخّر البنادق، وفيما يقرأُ أوراقَ الهدنة المعروضة عليه، يُوقِّع أمرَ الدخول فى جولةٍ جديدة من الحرب.

غايته الدائمة ألَّا يكون مُتوقَّعًا للقريب قبل البعيد، وأن يظلّ قادرًا على مُفاجأة الجميع وإتيانهم من مأمنهم أو من حيث لا يتوقَّعون، وما من دليلٍ أبلغ على ذلك من أنَّ مُداولات التهدئة فى أَوْج نشاطها فوق الطاولة وتحتها، والخطط مُكتملة وتنتظر الإنفاذ وحشد الاحتياط، وشُركاء الائتلاف مُنزعجون من احتمالية توقيعه على صفقةٍ جزئية، وخصومه من الفصائل لا يغمض لهم جِفنٌ فى انتظار أن تُقرَع الطبولُ من جديد.

لا يُغلق زعيمُ الليكود بابًا ولا يفتحه على مصراعيه، كلُّ الاحتمالات واردةٌ بالتساوى، وبعيدةٌ كأقصى ما يكون البُعد وانعدام الآمال.
صارت اللعبةُ مُحبَّبةً له، وراسخة بين باقة الأدوات التى تُشبِعُ نهمَه للسيطرة والتسلُّط، ويُتقِنُ الضغطَ بها على الأعصاب العارية هُنا وهناك؛ ليكون النَّزْرُ القليل منه كافيًا ومُرضيًا للآخرين حالما يتطوَّع به، والتعلُّق بالخيوط الواهية إدمانًا لا سبيلَ إلى الشفاء منه، ولا بديلَ عن الاكتفاء به؛ دون عَشَمٍ فيما هو أكبر.
ولا حاجةَ للضياع فى زحام الإشارات المُتضاربة؛ فالواضح دون مزيدٍ من الفحص والتعمُّق، أنه ذاهبٌ إلى عمليّةٍ مُوسَّعةٍ فى شمالىّ القطاع.

سيعود إلى غزة بعد نحو سنتين من زيارتها الأُولى الخاطفة، وهو يعرف أنها لم تعُد تُشكِّل خطرًا حقيقيًّا، ومهما كانت تُمثّل من قيمةٍ بين أُصول حماس الباقية؛ فالحركة بكاملها صارت أقرب إلى الاقتناع بالهزيمة، ولا يمنعها من الاعتراف إلَّا الحرج والمماطلة فى سداد الفواتير الباهظة.

وهو يتدرَّج فى السلوك كما فى التّسميات: اشتباكًا بالسيوف، ثم تتّبُّعًا بالعربات، وأخيرًا إغلاق قبضته الحديدية على الأعناق، والاستمتاع بأن تختنق الفصائلُ وتنزف ما تبقَّى فى عروقها ببطء، ودون أملٍ فى النجاة، أو سَعىٍ عاقل لإنتاج البديل المُؤهَّل، والأقدر على مُراوغة الأهداف الصهيونية السوداء.

ولأنَّ اللغة بطابعها لا تعرفُ الترادُفَ المُتطابق فى معانيه كوقوع الحافر على الحافر؛ ولو تطابقت الكلمات؛ فكلُّ عمليَّةٍ تحملُ من اسمِها نصيبًا.
بينما ما يزال ورثةُ السنوار أسرى طوفانِه الغابر مبنىً ومعنى، ولم يتحرّكوا شِبرًا على الأرض أو فى الوعى، وهُم أحوج ما يكونون لإنتاج مُخطَّطهم الدرامى بتدرُّجٍ صاعد، وفصولٍ مُتمايزة عن بعضها، لا تستجيبُ طرديًّا للاستدراج من جانب العدو، ولا تتعالَى على المُغايرة والمُقابَلة الضدّية لأُطروحته الماضية فى مسار التعويق وإزهاق الأمل فى الصدور.

وإذا كانت الحركةُ عاجزةً عن الخيال وابتكار البدائل من داخلها؛ فلا شىء يُبرِّرُ التقاعُسَ عن الهندسة العكسية لأجندة الاحتلال وتماديه فى جُغرافيا القطاع ووجوده المُعلَّق بحبالٍ واهيةٍ تُطوّحها الرياح.
كان الطوفان انفجارًا يروم التوسُّع فى المكان والزمان، وعندما ارتدّت الموجة عليه وأجبرته على الانحسار، توجّب فى وقتها أن يُنظَر بعُمقٍ إلى أسلم المسالك للانسحاب وإعادة التموضع.

السيوف الحديدية كانت دعوةً للاشتباك من النقطة صفر، وعربات جدعون أوحت بالملاحقة وتطهير ساحات القتال، والمُتوقَّع من «القبضة الحديدية» أنها ستكون إطارًا خَشِنًا للتمركُزات الباقية، وحوائل صلبة تمنع انسيابية المُقاتلين واللوجستيات، وتصُفُّ الكُتلة البشرية الهادرة فى مُعسكراتٍ شبيهة بما فعله النازيون باليهود سابقا.
وما فات فى الجولتين السالفتين، ينبغى ألّا يفوت عليهم اليوم؛ ولو بمبادرةٍ منهم بالافتداء والتضحية.
ما يزال العالم عاجزًا عن التصدِّى للهمجية الإباديّة فى غزة، واستفاقة الضمير الحالية تُصوِّبُ الصورةَ ببطء ولن تُغيّرها تمامًا، أو تقلبها رأسًا على عقب.
يُحتَمَل أنَّ نتنياهو يضغط لاستخلاص مكاسب وتنازلات، ويجب ألا يُستَبعَد من الاحتمالات أنه ماضٍ فى خطّته المُعلَنَة، ويتطلّع من وراء المطالبة برأس حماس، إلى أن يُطيح فى طريقه بآلاف الرؤوس، كما كان فى الشهور الماضية، ويُعمِّق مناسيب اليأس وانعدام الأمل، ويُعبِّد الطريق لكَنس الغزّيين قهرًا أو تحفيزهم على المغادرة طوعيا.

ومسؤولية الفاعلين فى البيئة الخربة ألّا يستبعدوا خيارًا مهما تضاءلت فُرصُه أو بدا مستحيلاً، وأن يعيدوا برمجة رؤيتهم على أسوأ الظروف وأشدّ المخاوف إزعاجا.

لأنّ المسألة تخطّت بقاء الهياكل النظامية أصلاً، وصارت الحركة مجرّد ذريعة يُصوِّبُ منها على الوجود الفلسطينى بكامله، وفى الضفّة الغربية كما فى القطاع المنكوب.

والتحسُّب من القبضة الحديدية وتداعياتها، يتطلّب ألا تنطوى البيئة المستهدفة على أيّة مُبررات للاستهداف أو التصعيد.
قد يطرأ على الذهن هُنا أن يخرُج المقاتلون من الشمال لينتشروا فى بقيّة الأرجاء؛ لكنها تظل فكرةً رومانسية لا معنى لها فى الشكل أو المضمون، لصعوبة إنجاز الإزاحة المشار إليها إلَّا بنزوحٍ جماعىٍّ تتدثَّرُ فيه عناصر الكتائب، ويُحقِّقُ مُرَاد الاحتلال بغَسل المدينة من سكانها، مع بقاء السلاح الذى هو عِلّة المُتعَلِّل أصلاً.
مع حقيقة أن الصمود لن يتبعه سوى مزيدٍ من القتل، وترحيل المدنيين بالجوع والنار، ما لم تحدُث معجزةٌ من خارج الفضاء الفلسطينى كاملاً، فى زمن لم يعُد قادرًا على تخليق المعجزات للأسف، ناهيك عن أن تكون رهنَ الطلب وعلى وجه الاستعجال.

وإذا كانت تكتيكات نتنياهو تنحو إلى التجزئة، ليصير الحدث الواحد المُتّصل غابةً من الحوادث والمُربكات؛ فالحال أنَّ مأساة غزة ممتدة على وتيرة واحدة منذ الطوفان، ويجب ألا يُساق أهلها إلى خديعة العدو ولعبته فى مقاربة الأوضاع بالقطعة.
ما كان متاحا فى بادئة الحرب تضاءل حتى اختفى، وما كان ممكنًا يستحيل اليوم، وكل ما فوّته الحماسيون سابقًا ارتضوا بأقل منه أو أسوأ فيما بعد، وحتى هذا لم يُحصّلوه أيضًا.

وامتداد التجربة على سابق الخبرة، لا يشى بأنَّ مُتغيّرًا طارئًا سيدخل على الخطِّ ويُصحح الأوضاع. ما يعنى أن غزة مُرشَّحة لتكرار ما حدث فى رفح وخان يونس، والغزيون إلى الجنوب أو المواصى فى كل الأحوال، مع قوةٍ مُعطَّلة عَمليًّا وتكاليف أكبر فى الأرواح والمقدرات، وما سيتطلَّبه الإعمار والتعافى لاحقًا.
لقد ربح العدو منذ الوهلة الأولى فى السابع من أكتوبر، وكلّ ما تلا ذلك خسارة صافية للفصائل والقضية، ولا مفاضلة اليوم إلا بين الإنقاذ ومواصلة الإهدار، وبين مقاربات يُحتمَل أن تستدرك على خطايا المقاوم وجرائم المحتل، أو إيغال فى سكة ظاهرها أسود، وما وراء الظاهر أشدّ سوادًا.

إزاء تلك الحالة المستجدة وغير المتكررة سابقًا، يتعيّن البحث عن أفكار من خارج صندوق الأيديولوجيا والجمود الشعاراتى، وبعيدة عن المعنى الساذج للصمود بوصفه انتحارا مجانيا، وليس آلية دفاعية لحراسة الوجود والدفاع عن الحد الضامن منه لاستدامة القضية ونضالاتها.

وفى كل الأحوال؛ فإن ما تتقاعس الفصائل عن التضحية به الآن، سيُستَخلَص أضعافا من حاضنتها الهشة، ثم ستجد فى آخر المطاف أن عليها سداد الأثمان نفسها بالضبط، أو ربما بأعباء مركبة.

ومع التسليم؛ ولو دعائيا على الأقل، بخروج حماس من مشهد اليوم التالى، وإحلال إدارة مَدنيّة غير فصائلية، وحقيقة أن التعافى وإعادة الإعمار عملية مرهقة زمنًا وتمويلا، فالمَيل إلى صَون غزة يقضى بالضرورة بتحييد السلاح، والقبض عليه لا يعنى إلا المراهنة بها على المجهول.
والمخرج الوحيد هنا، حسبما أتصوره، أن تبادر الفصائل اختيارا إلى ما سيصير لاحقا بالاضطرار. نتنياهو لا يريد الرهائن، وكلما طالت الحرب تفقد الورقة وهجها وفاعليتها. لا يؤلمه السلاح ولا حاجة له به؛ إلا بقدر ما يفتحه له من مسارات إلى الحرب، أو يعينه على تنحية السياسة وإبقاء المسألة فى نطاق الخصومة الوجودية الخشنة.

والجوع لواء مضاف إلى جيشه الذى لم يوفر جريمة وحشية إلا ارتكبها، وطاقة الناس لا تُستَمَد من الفراغ، وليست كطاقة الكون التى لا تنفد؛ وإن كانت مثلها لا تتولّد من العدم.

وفى اللحظة الآنية، فإن حماس تنتظر مع الوسطاء رد نتنياهو على ورقة المبعوث الأمريكى ستيف ويتكوف، وخلاصتها صفقة جزئية بنصف الأسرى لقاء هدنة من ستين يوما، ثم التفاوض على الوقف الدائم لإطلاق النار، ومن مقتضياته غير الخفية أن تتنحى الحركة مع سلاحها، ويُصار إلى صيغة إدارية لا ظل فيها للحركة وحلفائها.

فالمحصلة أن انتظام الأمور بكيفية مثالية سيُعيد بعض الرهائن مقابل مدد من شاحنات المساعدات، ثم يُلملم الحماسيون وجودهم الخافت ويُخلّوا وجه القطاع لمنكوبيه؛ هذا لو صح منهم الإقبال على التسوية بملامحها المعروفة. فلماذا لا يكون هذا دفعة واحدة، وبمبادرة تقطع الطريق على أية محاولة للنكوص أو الانقلاب على الالتزامات؟!

لقد كانت الأجندة الإخوانية عبئا ثقيلا على كاهل القضية. تشغيبا على أوسلو فى الماضى بشراكة اليمين الصهيونى، ثم مناكفة لعرفات، ومناطحة من بعده للرئيس عباس والمنظمة، وصولا إلى الانقلاب وتفسيخ النسيج الفلسطينى بالانقسام.

وإلى الآن؛ تتجسد المظلمة الغزية بوضوح لا يقبل الإنكار؛ لكن وجود الحركة يثير الغبار ويُغطّى جنون نتنياهو، ويحول المسألة الإنسانية الصافية من أصل إلى فرع، ومن امتحان ثقيل على كاهل العالم إلى مجرد أثر جانبى عن صراع الأيديولوجيا والمحاور.

وإذا كانت أضعف من الدفاع أو الهجوم وحماية الضحايا؛ فلتترك لهم السردية خالصة من الاستتباع والوصم ومحاولات التوظيف لأهداف أخرى.
الفكرة هنا باختصار أن يصفو ذهن خليل الحية مع دائرته اللصيقة، ويعرف أنهم يتحملون جانبا من مسببات الإرباك وتشيىء المنكوبين فى القطاع. ولو أبعدوا أنفسهم عن الصورة فغالبا لن تكون الخسائر أكبر، وسيُوضع العالم أمام مسؤوليات لا تعمية فيها أو اصطناع، ويُعاد تكييف الجريمة حال استمرارها على وجه واحد لا يقبل التأويل والجدل: نازية صهيونية توغل فى الدم قصدا، ولا تنزلق إليه بالخطأ فى صخب القتال والمطاردات.

ومن نافلة القول أننى أقرّ بالواقع الماثلة تماما، وأعرف أن إسرائيل كيان دموى منحط؛ لكننا نواجه العالم بتلك السردية منذ فاتحة الطوفان وما تغير شىء. لأنه منحاز أو متخاذل طبعا؛ ولأن بعض المتطوعين من جانبنا يغذون ماكينة التحيز والخذلان أيضا.

يضيق الهامش الضيق أصلا على الغزيين. وتحتاج اللحظة القاسية إلى تكثيف الضغوط من كل الجهات، وبأقصى الوسائل الممكنة؛ إنما لا بديل عن إيجاد البديل حال تعطل المسار، دون المغامرة فى اختبار جولة إضافية لا يطيقها الغزيون، ولن تكون الأوضاع بعدها إلا أسوأ مما هى عليه حاليا كما جرت العادة.
وأهمس فى أذن الحماسيين بأن عليهم التحلل من ذواتهم المتضخمة قليلا، والإصغاء لمواجع البشر والحجر فى البيئة التى انطلقوا منها، ويفاوضون عليها، وسيُسألون عنها من دون شك.

وأتصور أن يبادروا إلى الإعلان عن حل الحركة، ودعوة الأمم المتحدة إلى تشكيل قوة إقليمية ودولية تتسلم السلاح وتفض الاشتباك، تسبقها دعوة السلطة الوطنية إلى الإمساك بزمام الأمور وترتيبات الإدارة فى القطاع، مع نقل ورقة الأسرى والتفاوض إليها أو إلى الوسطاء، مرفقة بإعلان النية عن إطلاق الباقين منهم دفعة واحدة ومن طرف واحد، وتفويض الرئاسة والحاضنة العربية اللصيقة فى بنود الاتفاق ومفاتيح التبادل.

إن القضية أهم وأبقى من المتحدثين باسمها جميعا، والفصائل مكونات أيديولوجية يمتزج فيها الحق الوطنى بالاعتقاد الدينى، ولا سبيل للقضاء عليها تماما كما يتردد دائما. ما يعنى أن التضحية ستكون إنقاذا لا استسلاما، وقطعا لطريق العدو لا تنازلا عن فلسطين، مثلما يسوّق البعض ضمنيا عن علاقة حماس بالصراع المفتوح قبل نشأة الحركة بعقود، والمستمر عقودا بها أو بغيرها حتى استعادة الحقوق العادلة.

فى المثل السائر أنه «لا يفلّ الحديد إلا الحديد»، وهذا ما لا يملكه المنكوبون وبقايا المُقاتلين فى القطاع؛ فليكُن التعقّل بديلاً، والانفلات مِمَّا بين المطرقة والسندان هامشًا للبحث عن بديلٍ للمستقبل، بدلاً من تبديد القليل المُتبقّى فى حاضر شديد الاختناق. فمهما كنت هشًّا؛ فالزمن كفيل بالحديد وما هو أصلب منه. الخطّة واحدة قطعًا؛ لكن نتنياهو غير مُخلَّد، وقد لا يكون ورثته على قدر توحُّشه، وما يستغلق اليوم يتوجّب إرجاؤه للغد؛ كلما كان الإرجاء مُمكنًا.

إذا كنت الحلقة الأضعف فى جيشك، أو الثغرة التى يُطال منه؛ فلا معنى للإصرار على إبقاء الاعتلالات على حالها، أو تزجية المكاسب السهلة للمترصدين بما هو أكبر من جماعة وراية خضراء. نتنياهو نازى مجنون، ومن ورائه دولة مغرقة فى يمينيتها المتوحشة حتى النخاع، وإسناد أمريكى لم يتزعزع حتى الآن، ولا يبدو أنه سيتزعرع.
ولا بطولة فى مصادمة القطار الهائج باللحم الحى؛ إنما البطولة كلها فى مفاداته والنجاة؛ ولو بجروح. وفى الأخير؛ لن يُعيّر الضعيف بأنه فرّ بحياته من أمام كتلة الحديد التى لن تتوقف عن حصد الأرواح، ولن تشبع منها ولو بدّلت أسماء العمليات الإبادية التى تطلقها ألف مرة.




أخبار اليوم السابع على Gogole News تابعوا آخر أخبار اليوم السابع عبر Google News
قناة اليوم السابع على الواتساب اشترك في قناة اليوم السابع على واتساب